Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
3 septembre 2012 1 03 /09 /septembre /2012 22:09

 

الشيخ محمد الصالح النيفر : وقفات مع التنوير الفلسفي والإصلاح الاجتماعي في الجزائر

 

 

تقديم الدكتور عبد القادر تومي

أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بوزريعة

نص المداخلة الخاصة

 بندوة يوم القدس

29رمضان/ 17 أوت 2012

تونس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مستحق الحمد الذي أَطعم وأنعم ويسر ورحم، والصلاة والسلام على من اصطفاه رحمة للعالمين وقائداً للغر الميامين و إماماً للمتقين وشفيعاً للمسلمين سيدنا ونبينارسول الله (محمد بن عبد الله) عليه وعلى صحابته الأبرار و آله الأخيار.

 أما بعد

دعوني في البداية ان انقل لحضرتكم سلام إخوانكم  الجزائريون الذين حملوني أمانة ايصال تحاياهم الى مجلسكم هذا وأمانيهم بنجاح ندوتكم المباركة وهؤلاء هم الاستاذ الفاضل نور الدين كرواز، الدكتور عبد الحليم بوزيد، والدكتور عبد الرزاق قسوم ، والدكتور عمار طالبي، والدكتور محمد حجازي والشيخ البخاري وهم من العلماء الذين رافقوا الشيخ النيفر او كانوا طلبة في حلقاته العلمية.

 يقول سيد قطب عند حديثه عن الفكرة التي تعيش طويلا: " عندما نعيش لذواتنا  تبدو الحياة قصيرة ضئيلة تبدأ من حيث بدأنا  نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود. أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة فإن الحياة تبدو طويلة ، عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.... "[1]

إن هذه المقولة القطبية  لتنطبق على هذا الرجل "الأمة" الذي ما يزال بآثاره يحيا بيننا، انه اعالم الجليل ، الفيلسوف في مواقفه والمصلح في أعماله ونشاطه المناضل الزيتوني الذي راهن على قوة وروح المجتمع الإسلامي انه الشيخ المجاهد محمد الصالح النيفر عليه رحمة الله تعالى ورضوانه و بركاته  و أسكنه فسيح جنانه، و ألحقه بعباده الصالحين، اللهم آمين يا رب العالمين.

فان كان قد غادر هذه الدنيا فان أفكاره ما زالت متلألئة كالنجوم التي تضيء سماءنا والفضل يعود إلى هؤلاء الذين  عهدوا على أنفسهم جمع وإثراء ما تركه  هذا الكوكب  في دنيا الأمة الإسلامية.

في هذه المداخلة اخصصها للحديث عن أعمال الرجل في الجزائر فأسوق لكم بعض الشهادات التي ادلى بها اصحابها  عن نوعية نشاطه ومميزات خطابه، ومصطلحاته التي كان يركز عليها في حلقاته العلمية.

وهذه المساهمة المتواضعة  تمثل رؤية من زاوية فلسفية  عامة ، رصدتُ من خلالها النظرة الفلسفية ، ومنهج التعامل مع قضايا الواقع الجزائري في آثار الشيخ  محمد الصالح النيفر ، مع انتقاء موضوعات رأيت أن الفلسفة حاضرة  فيها ، بشواهدها وقوانينها التي وعاها الشيخ، وقدمها فكرا ينضح بالنور ، وسيرة تُشع بالعبرة  .

وكما تحاول أن تقرأالجوانب الواقعية لفكر وفلسفة الشيخ. فإنها تركز على الخطاب الإصلاحي الذي كان يعتمد على الأسلوب المنهجي في التعامل مع الأخر.وهو الأسلوب الذي يتطلب العقلانية في التفكير والمنطقية في الفهم والواقعية في التصور وهو ما مارسه الشيخ في  مواعظه الدينية في بيته أو المساجد،  أو في دروسه التعليمية في المعاهد الثانوية والجامعية، الأمر الذي يجعلنا نميز في الخطاب الإصلاحي لدى الشيخ النيفر مجموعة من المميزات الأولى تخص مضمون الخطاب والثانية تدور حول منهج الخطاب الإصلاحي عنده.

  كما نشير في البداية أن معتمدي في هذا البحث الكتاب الذي ألفته السيدة أروى عن أبيها وما نشر في بعض المواقع الالكترونية عنه بالإضافة إلى الروايات التي جمعتها عنه في الجزائر من أصدقائه الذين عرفوه وعاشروه عن قرب خاصة السيد نور الدين كرواز[2] الذي نحييه ونتمنى له كل الخير.

             عالم تونسي في بلاد الجزائر

يقول الشاعر:

إذا أنت لم تكرم بأرضك فارتحل   *******   فلا خير في أرض مهان كريمها

دخل الجزائر في يوم عيد الفطر من سنة 1963م ، وتنقل لنا السيدة أروى في كتابها عن أبيها وهو يتحدث عن خروجه من تونس وتوجهه إلى الجزائر:" ولما داخلتني الشكوك القوية في النوايا ولم أجد السبيل أمامي لتحويل  الوجهة أو توجيه النصح النافع تركت البلاد إلى جارتنا الجزائر فوجدت نفسي فيها ....وجدت نفسي بين قوم أرأف بي وأكثر لطفا على من أهلي وعشيرتي "[3] فاستقر في بداية الأمر في مدينة البليدة وأسندت له فيها مهمة إدارة المعهد  الإسلامي التابع لوزارة الأوقاف، ثم طلب الانتقال إلى مدينة ابن باديس مدينة قسنطينة، حيث التحقت به زوجته وابنته الصغرى هالة، وفي هذه المدينة مارس مهنة التعليم الثانوي في إحدى ثانويات قسنطينة، ليتحول فيما بعد لتدريس الفلسفة الإسلامية في جامعة المدينة. وفيها أسس مع ثلة من الجزائريين جمعية الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي وكانت بالنسبة له إطارا لنشر الوعي الإسلامي في صفوف الشباب الجزائري. هذا الوعي الذي وصفه الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة قائلا: " كان العالم الواعظ الشيخ محمد الصالح النيفر الإمام بجامع سيدي الكتاني في قسنطينة يقوم بتوعية إسلامية في أوساط الشباب الجزائري بقسنطينة وغيرها من المدن الجزائرية بواسطة الخطب الوعظية والدروس الدينية. وقد شكر الشاعر له هذه المواقف المحمودة فحياه بالأبيات التالية:

حي الإمام (النيفري) وقل له …*… بشرى لنا بك من إمام داعي
إن الجزائر بوأتك مكانة …*… مرموقة لندائك السماع
لك في مساجدها مجالس دعوة …*… كمجالس (البصري) و (الأوزاعي)
تدعو لإحياء التراث شبابها …*… وتدله بأدلة الإقناع
لم لا يكون من اقتدى بك صالحا …*… وقد استجاب لـ (صالح) نفاع
واصلت توعية الشباب فحاد عن …*… سبل الضلال ومال للإقلاع
إن الشباب إذا اهتدى بلغ المدى …*… من وعيه وأقر عين الراعي
وهل ارتقت شتى الشعوب وهل نمت …*… إلا على أيدي الشباب الواعي

 في البداية نشير الى أن جميع الشهادات التي جمعتها عن الشيخ  تصب في مصب واحد وهو ان الرجل عالم جليل من طينة العلماء الكبار كابن باديس ومالك بن نبي ومحمد عبده والإمام الخميني  والشيخ الشعراوي والشيخ النعيمي  وغيرهم من ابناء امة الاسلام.

يعتبر الشيخ النيفر مرجعية قوية في الجزائر خاصة في جهة الشرق الجزائري اقصد باتنة وسطيف وسكيكدة وميلة ..كما يشهد  بذلك الاستاذ كرواز

1-                  الشيخ النيفر و التنوير الفلسفي

إن أهم ما نلمسه في الخطاب الإصلاحي لدي الشيخ نجده يتحدث عن موضوعات دينية و فكرية بنظرة فلسفية ثاقبة ويقدم رؤيا فلسفية  وفق أرضية إسلامية  صلبة ويشرح سنن الكون وفق منطق محكم سليم، ويقرا الفقه الإسلامي قراءة واعية تستهدف استنهاض الهمم كما يقول الدكتور عبد الحليم بوزيد، وتدفع إلى التأمل والعمل بمقتضيات الشرع الحكيم.

  قال في إحدى مقالاته عن الفلسفة مقارنا بينها وبين الحكمة على أن الأولى تفكير وبحث أما الثانية فهي تفكير وعمل مستشهدا برأي الغزالي حين قال لأحد تلاميذه:" أيها الولد لا تكن من الأعمال مفلسا ولا من الأحوال خاليا فلو قرأ رجل مائة مسألة علمية وتعلمها ولم يعمل بها لا تفيده إلا بالعمل"[4] مصداقا لقوله تعالى" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا"[5]

وبالنسبة إليه فان العمل ادخل على مدلول الفلسفة فأصبح ما دعا إلى إليه القران من حكمة هو فلسفة بما أنها أي الفلسفة هي إعمال النظر في الأصول والعلل مع الاعتماد على البرهان العقلي للانتفاع من قوى الكون[6] مستندا إلى الموقف الرشدي الوارد في كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" والقاضي بان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، وان النظر إما واجب بالشر ع  أو مندوب إليه، وان  الشرع قد اوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها " فاعتبروا  يا أولى  الأبصار"[7]

          وأثناء حديثه عن الفلسفة الإسلامية بين دعوة القرآن لاستعمال العقل في تفهم الأشياء، عللها ومعلولاتها، وفي المقابل ينكر على أولائك الذين لا يستعملون عقولهم، وحجته أن هذا الدين بني على التفكير والتدبير[8] وما أكثر آيات القرآن التي تشير إلى هذا الأمرقال تعالى "قُل سِيِرُوا في الأَرضِ فانظروا كَيفَ بدأ الخلق"[9]
ولقد دعانا ديننا إلى التفَكُّر في خلق الله تعالى حيث قال ربنا "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب* الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار" [10]

ولقد بين الشيخ النيفر مراتب العقل ومواضع اختصاصه  ودوره في التفهم والتفقه لنصوص الشرع وقد ساير موقف الغزالي في توضيح العلاقة الضرورية بين العقل والشرع[11]

كما عرض الشيخ لمسائل فلسفية فطرح الفكر الإنساني عموما والفكر الفلسفي الإسلامي خصوصا مثل الشك و موضوع السببية  مستندا إلى مواقف فلسفية سابقة كتلك التي استلهمها من الفكر الديكارتي أو ما أفرزته فلسفة أبي حامد الغزالي خاصة من خلال كتابيه المنقذ من الضلال أو إحياء علوم الدين.

الأمر الذي يجعلنا نقول أن الشيخ النيفر قد جمع مشارب الفكر الإنساني بين يديه مستفيدا مما أنتجه الفكر الإسلامي أو غير الإسلامي[12].

وقد جمعت السيدة أروى مختلف الموضوعات الفلسفية التي عالجها الشيخ من زاويته الدينية من ذلك حديثه عن إعجاز القرآن في شأن الوعد والوعيد (ص357) وسنن الله في الكون الثابتة (ص361)

وخاض في الفرق الإسلامية مبينا حقيقة بعضها والاختلافات فيما بينها[13]. و تحدث عن التصوف الإسلامي [14] ومظاهره، وعلاقته بموضوعات ترتبط بمفهومه كمذهب وحدة الوجود، وظاهرة الكشف، وقد ساق لنا أبياتا شعرية من الأدب الصوفي يوضح فيها مقولاته.

وتحدث عن الحضارة الإسلامية وأساسها العقيدي، وخصائصها الفكرية والاجتماعية والعمرانية بين الشيخ النيفر مسائل مهمة تدور حول محورية الإنسان المسلم في الكون، والقوانين التي تحكم علاقته بربه عقيديا، وبغيره من البشر في إطار من المعاملات الشخصية والاجتماعية[15] واخذ التشريع في الإسلام ، والفقه ومذاهبه، ومسائل الاجتهاد، مكانا مهما من دروسه التي كان يلقيها على الناس ويعظهم بها.

ومن جهة المحاصنة والممانعة كان الشيخ النيفر للمفسدين بالمرصاد  فعالج بعض المذاهب  الغربية التي كان لها أثرها على الواقع  كموضوع العلمانية وأشار إلى الخداع الذي يمارسه المفسدون تحت عناوين مختلفة (اللائكية، الحداثة، الاشتراكية...)،الذين ينعقون في كل واد بان الدين خرافة وجود وظلامية، ليصبح الكذب والغدر واستغلال الضعيف والاعتداء على الحقوق إلى غيرها من السلوكيات المرذولة التي تصبح في عرف النفعيين سلوكيات عادية بل مقبولة أخلاقيا[16] مقلبين الحقائق إلى أضدادها محولين الحق باطلا والباطل حقا، وبذلك ينتشر الفساد في البلاد بواسطة العباد باستغلال ما توفره وسائل الإعلام لهم من أبواق دعائية.

لكن كان للشيخ النيفر إدراك تام لنوايا هؤلاء فكان لهم بالمرصاد مستخدما الحكمة والبيان في كشف ألاعيبهم وأهدافهم ، وموضحا لسبل الإصلاح التي لا تخرج عن محور العودة إلى كتاب الله الذي يصلح النفوس الفاسدة وييسر الهداية لمن ظل الطريق.

وتطرق أيضا في دروسه إلى جميع الشرور التي تتربص بالإنسان خاصة تلك التي جلبتها ريح الفلسفة المادية وجندت لها جموع المستشرقين الذين قاموا بأدوار كبرى في تغيير عقلية المسلمين بعد خداعهم بموضوعات وأساليب جديدة.[17]

 

أما في المجال الإصلاحي فإننا نسجل جوانب مهمة في التميز وقد قسمنا ذلك إلى قسمين اثنين.

أ‌-   مميزات الخطاب الإصلاحي من جهة المضمون.

1-         التركيز على عنصر الشباب:

   لقد كان التركيز على الشباب لما لهذا الأخير من دور في حمل راية الدعوة الإسلامية، وكان يوجه خطبه لهم أي الشباب علما منه أن الشباب يتفاعل مع كل جديد، وهم أكثر الناس تأثراً، وأسرعهم استجابة، وأشدهم تفاعلاً ولقد رَبى النبي صلى الله عليه وسلم  جيلاً  مؤمناً و ملتزماً بمفاهيم وقيم الإسلام، وكان الغالب في هذا الجيل شريحةِ الشباب. رَباهم على التربية المتوازنة القائمة على الموازنة بين العاطفة والعقل، الروح والجسد، العلم والعمل. وهذا التوازن الدقيق هو المنهج السليم في التربية.

وكان الشيخ رحمه الله يدعو في كل  مناسبة إلى واجب التقرب المبين من الشباب وهم  رجال المستقبل في إطار التوعية  المباركة ، وللتكوين  السديد وبلوغ درجة التأهيل لخدمة العباد والبلاد في إطار المصلحة العليا  للإسلام والمسلمين وعلى أساس من التقوى والتمسك في طريق التنمية الشاملة[18]

ويشهد الدكتور عبد الحليم بوزيد انه كان ينصح الشباب بالابتعاد عن الفتنة كل ما امكن مركزا على العلم والتربية المسجدية في بنا الفرد المسلم.

ولقد تعامل الشيخ برفق مع الشباب، مما زاد من التفافهم حوله،  خاصة في قسنطينة   وهو ينصحهم على الخير العميم لوجهه تعالى ولفائدة الدين الحنيف  وقد شجع مجموعة من القسنطينيين الأفاضل بأنوار من الدين الحنيف لتأسيس جمعية الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي وقد نجح بذلك بفضل الخصائص وطريقة التعامل مع الشباب  التي يتميز بها الشيخ وقد مدح القرآن الكريم تعامل النبي صلى الله عليه وسلم،  مع الناس باللين والرفق، يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[19] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يحث على الرفق، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم،  قوله: " إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه "[20]

  من خلال تعامل الشيخ الحكيم مع الشباب[21] استطاع أن يربي جيلاً مؤمناً وملتزماً بتعاليم وقيم الإسلام، وكان لهذه الطليعة المؤمنة ـ فيما بعد ـ دور مهم ومؤثر في التبليغ  للإسلام، ونشر مفاهيمه وقيمه ومثله  وهاهي جمعية الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي  بقسنطينة تعيش السنة 46 من عمرها وكل ذلك بفضل ذلك التخطيط الحكيم من الشيخ النيفر رحمه الله .

2-         الاهتمام بالواقع التربوي

لما أدرك الشيخ النيفر ما للتربية من دور ركز اهتمامه عليها وكأنها المهمة الأولى  التي يجب الاعتناء بها . أثناء حديثه عن طريقة الإسلام في التربية كان يركز على مكارم الأخلاق وقضية العمل بها.

لقد أدرك الشيخ النيفر أن التربية الإسلامية تحرص على تفجير منابع الخير عند الإنسان وذلك بكثرة طرق الخير من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وطلب العلم والإحسان وغير ذلك، بحيث أن كل طاقة موجودة عند الإنسان يجد لها مصرفاً يصرفها فيه، ويشعر أنه يخدم الإسلام من خلال تصريف هذه الطاقة، ولا شك أننا نجد كثيراً من الناس وخاصة الشباب يتمتعون بطاقات كبيرة جداً، بطاقات جسمية، وعقلية وغيرها. فحين لا يوجد من يستثمر هذه الطاقات تجدها تتسرب وتذهب إلى مجالات وجهات ليست محمودة؛ فتضيع مثلاً في الركض وراء الكرة ركضاً مبالغاً فيه، أو تضيع في الركض وراء الشهوات وإشباع الغرائز، أو تضيع وراء قضاء الأوقات مع الشلل والأصدقاء المنحرفين، أو تضيع بأي صورة من الصور، إن لم تجد المصرف الصحيح الذي تصرف فيه وتوجه إليه، لكن الإسلام والتربية الإسلامية الصحيحة أوجدت المجالات التي يمكن استثمار هذه الطاقات من خلالها،

كما أولى الشيخ النيفر اللغة العربية اهتماما منقطع النظير، فقد عرف رحمه الله بشدة حبه للغة العربية، واتضح ذلك في أصالة الخطاب الذي يلقيه، ولما أيقن أن اللغة هي أساس الهوية، وعنصر الانتماء لهذه الأمة، فكانت للشيخ مقترحات فاعلة للنهوض بالتربية والتعليم في المؤسسات التربوية الجزائرية، وارجع أسباب ضعف مستوى التعليم إلى الاضطراب  في تعليم العربية الذي تورثه الجزائريون من الإدارة الفرنسية[22]. وقد كان يرى مثل زميله الذي التقى في مدينة البليدة الشيخ البشير الإبراهيمي أن لغة الأمة هي ترجمان أفكارها وخزانة أسرارها، و أن الأمة الجزائرية ترى في اللغة العربية زيادة على ذلك القدر المشترك، أنها حافظة دينها، ومصححة عقائدها، ومدونة أحكاهما، وأنها صلة بينها وبين ربها[23].

 ولا تعتبر اللغة العربية في رأي الإبراهيمي لغة جامدة غير قادرة على استيعاب ما وصلت إليه مختلف الحضارات، فهو يرى فيها قالبا يتسع لأكثر من ذلك، كيف لا؟ وهي من حوت تاريخ وحضارة الإنسانية يوم كانت اللغات الأخرى في حالة جمود ونسيان، ويؤكد ذلك بقوله:" ...وقد كانت هذه اللغة ترجمانا صادقا لكثير من الحضارات المتعاقبة التي شادها العرب بجزيرتهم، وفي أوضاع هذه اللغة إلى الآن من آثار تلك الحضارات بقايا وعليها من رونقها سمات، وفي هذه اللغة من المزايا التي يعز نظيرها في لغات البشر الاتساع في التعبير عن الوجدانيات، والوجدان أساس الحضارات والعلوم كلها[24]

ولما حاول الفرنسي إحلال البربرية مكان اللغة العربية وذلك تفريقا للأمة الجزائرية وسعيا منه لدس الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، دافع الإبراهيمي على ترسيخ عروبة الجزائر ماضيا وحاضرا، في الكثير من المحافل أينما حل، وحيثما ارتحل فيقول:" اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة ولا دخيلة، بل هي في دارها، وبين حماتها ، وأنصارها،وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل... ".[25]

 

الدعوة الى الوحدة

يقدم الدكتور بوزيد شهادته هذه فيشير الى ان اغلب مضامين حلقات الشيخ النيفر لا تخلو من الدعوة الى الوحدة ونبذ الخلافات، وكان يكره السياسة التفريقية التي تقول هذا عربي وهذا امازيغي، وكان يدعو الى إزالة الحدود الاستعمارية من أذهاننا  لان الإسلام جامع للمسلمين ، وفي سبيل السعي للوحدة الإسلامية  كما هي في القران كان يدعو إلى انصهار الأمة في المنطلقات والمشاعر وإلغاء الحواجز المذهبية ويحارب النزعة المذهبية من الأذهان وهي التي كان يوظفها الاستعمار للنيل لتجسيد الفرقة بين أبناء الأمة.

 

مميزات الخطاب من جهة المنهج

يتميز خطاب الشيخ محمد الصالح النيفر بما يلي:

1-                   هو خطاب نصحوي

كان رحمه الله تعالى في تاريخ ما، بنادي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تقديم محاضرة توجيهية للشباب القسنطيني فقيل له " يا شيخ إن فلانا يدعوكم لفائدة ما، فأجاب الشيخ الكريم، طيب الله مثواه " وصيتي إليكم أن لانخرجوا عن النظام العام ولا عن الإطار الذي أنتم  فيه احذروا، احذروا والله معكم( ولئن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )

وكان رحمه  الله تعالى لايمكن أن يتعدى القانون المعمول به من جهة  ولا الخروج عن الشريعة الإسلامية من جهة أخرى فقيل له آن ذاك :هيا فلندع ولندفع أموال زكاة الفطر إلى فلسطين فأجاب " لا لا ! زكاة الفطر للتيسير على فقراء البلد مباشرة قبل يوم العيد بقليل، لا يمكن إخراجها بعيدا عن أهلها " وإنها لجرأة ملموسة خدمة للدين الحنيف ودفاعا عن فقراء الجماعة التي أسست من اجلها[26]

فالدعوة إلى عقيدة الإسلام وشريعته وقيمه الأخلاقية تأسست على الجدال الحسن والكلمة الطيبة، و الحوار المقنع، وهذا ما يجعل الثقافة الإسلامية عالمية، ليس لأنها عامة فقط بل لأنها لا تلغي الثقافات الأخرى. إنها كما قال احد الكتاب " تلك الثقافة التي تكون في عمقها إنسانية الطابع و الأبعاد، و تأخذ في اعتبارها إن ثمة تعدادا وتبيانا في الثقافات، ونسبية في المفاهيم. ومن ثم فهي تسعى إلى مد جسور التواصل والتفاهم مع الثقافات الأخرى، ولا تسعى إلى إن تكون نقيضا لها أو إلغائها"[27]  اعترافا بواقع الخلاف الموجود على الأرض، والذي أقره القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: "ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون "[28].

 

2-                  خطاب نقدي

مثل ماكان ناقدا لبرامج التعليم الزيتوني ومناهج تدريسه التي يراها غير موافقة لمتطلبات الواقع ولا لتطلعات الشباب التونسي[29] لم يسكت أيضا على الواقع التربوي في الجزائر. ولا على واقع المرأة كما كان، ولم يسكت عن المنكر والفواحش التي انتشرت في المجتمع الإسلامي آنذاك.

 

3-                  خطاب فعال.

لقد كان هم الشيخ النيفر تكوين شباب مسلم راسخ العقيدة غير مسلوب الإرادة 
إن لم تتوفر الإرادة الحقيقية والتي تتجلى مظاهرها من خلال الحركة والفعل لن يكون هناك تغيير ونصر، و واقع الأمة يعكس حجم الإحباط وكثرة الشعارات وقلة الأفعال ، ناهيك عن أبواق الظالمين ومدى تأثر المسلمين بها من خلال قلة الوعي تارة ، وتارة غشاوة البصر والبصيرة بحب الدنيا وحطامها وإيثارها على الآخرة، ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )[30] . فحقيقة النصر تكمن فيالانتصار للعقيدة والمنهج الإسلامي .

 

4-                  خطاب واقعي

المقصود بالواقعية في الخطاب أن العلامة الشيخ النيفر كان ينطلق من الواقع ويخاطب الناس وفق فقه الواقع والدعوة الإصلاحية التي تبناها الشيخ النيفر في الجزائر ترتكز على علم بحال الجزائريين، وآمالهم وآلامهم، وتطلعاتهم نحو صباح جديد، تشرق فيه شمس الحرية عليهم، وكان هذا لب مبدأ جمعية العلماء المسلمين، وفي ذلك يقول الإبراهيمي:"... مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة فالمبدأ هو العلم والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان: تحرير العقول والأرواح وتحرير الأبدان والأوطان والأول أصل الثاني، فإذا لم تتحرر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية، والأوطان من الاحتلال متعذرا أو متعسرا، حتى إذا تم منه شيء اليوم، ضاع غدا لأنّـه بناء على غير أساس، والمتوهم ليس له أمل، فلا يُرجى منه عمل، لذلك بدأت جمعية العلماء من أول يوم نشأتها بتحرير العقول و الأرواح، تمهيدا للتحرير النهائي..."[31].ويشهد الدكتور عبد الحليم بوزيد ان الشيخ النيفر كان يقول لنا "الاستعمار افرغنا من الوعي وملانا بالخرافات"، لذلك كان يوصي  بالتعبد عن وعي.

   وفي حديثه عن واقع المرأة يشير إلى الخط المعوج الذي رسم للمرأة فقتلوا فيها العاطفة والأنوثة وجعلوها كرة تتلقفها الشهوات[32] ووضعت كل مواهبها في سوق المزاد للناكرين والخادعين متسائلا أين هذا مما أعدته لها قوانين الإسلام وأحكامه من عزة وطمأنينة على كامل ادوار حياتها.
ويشهد له الدكتور  عمار طالبي بانه كان يركز كثيرا على تربية البنت المسلمة  نظرا لأهمية المرأة المسلمة  ودورها في المجتمع كما قدم لنا الدكتور طالبي شهادته الخاصة بمنهج الرجل .
 
الخاتمة

في ختام هذه المداخلة لا يسعنا سوى أن نهيب بالجهود التي تبذلها عائلة المرحوم في سبيل إحياء أفكار المرحوم والتذكير بخصاله الكريمة، فضلا عن جمع مقالاته ودروسه المكتوبة والمسموعة. وأخيرا نجدد الترحم على مجدد الصحوة الإسلامية في الجزائر وتونس، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الجنة مع هؤلاء العلماء الأخيار، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.



[1] - سيد قطب- أفراح الروح ، مجموعة نثرية بعثها لأخته حميدة  لما كان في السجن

[2]- شخصية جليلة من أهل العلم بقسنطينة  كان من رفقاء الشيخ وتعلم عنه الكثير من المسائل ، أسس مع الشيخ محمد الصالح النيفر مشروع جمعية الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي بقسنطينة  تحت إشراف المرحوم السيد حميدة باستارزي  ثم تحولت الى  جمعية النور للمحافظة  على القرآن الكريم  قسنطينة .ولا زالت تنشط إلى الآن .                                                                                                                                                                                                                                  

[3] - اروى النيفر – الشيخ محمد الصالح النيفر حياته وأثاره- دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الأولى- ص 95

[4]- اروى النيفر – الشيخ محمد الصالح النيفر حياته وأثاره- دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الأولى- ص 419

[5]- سورة الكهف- الاية 110

[6]- أروى النيفر – الشيخ محمد الصالح النيفر حياته وأثاره- دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الأولى- ص 422

Partager cet article
Repost0

commentaires