مقتطف من الجزء الأول من كتاب الأستاذة أروى النيفر تحت عنوان "من رواد الصحوة الاسلامية في تونس والجزائر: الشيخ محمد الصالح النيفر 1902-1993 للحصول على الكتاب المذكور أعلاه -4أجزاء- الاتصال بمعهد بيت الحكمة 75 شارع افريقيا المنزه الخامس الهاتف 71230578
الشيخ محمد صالح النيفر في سطور ...
المسيرة النضالية ...
بوادر نشاط الشيخ
منذ حصول الشيخ محمد الصالح النيفر على شهادة التطويع في أوج شبابه (1923) وانخراطه في سلك التدريس بدأ نشاطه حثيثا فاقتصر في بادئ الأمر على تنظيم ندوات فكرية وأدبية في منزل الشيخ الشاذلي بلقاضي شاركه فيها ثلة من المدرسين كانوا يتطارحون قضايا اجتماعية وأدبية وفكرية وسياسية. كما قام بإنشاء جمعية رياضية باسم «النشء الرياضي» منذ 1930 يتعاطى منخرطوها رياضات مختلفة وتنظيم مباريات بين الفرق وقد نشط فيها ابناه محمد مرتضى والمرحوم محمد علي.
لقاء مع الشيخ ابن باديس له ما بعده
في تلك الأثناء ، اجتمع بهم يوما الشيخ الجزائري خريج جامع الزيتونة عبد الحميد بن باديس واقترح عليهم تكوين جمعية ليبلغوا صوتهم للناس قائلا: «إن العالم سيتغير وإن المجتمع التونسي سيفقدكم يوما عندما يجد غيركم ممن لا يقيم للإسلام وزنا»، ودعاهم إلى تكوين جمعية على غرار جمعية علماء المسلمين الجزائريين. فكان لدعوة الشيخ ابن باديس أثر بليغ في نفس شيخنا الذي سعى مع شيخ الشيوخ إبراهيم النيفر والشيخ الشاذلي بلقاضي لتكوين هيئة من اثني عشر مدرسا من طبقات التدريس الثلاث على أن يكون الشيخ إبراهيم النيفر لاعتداله ولينه هو الرئيس والشيخ الشاذلي بلقاضي نائبه والشيخ المختار بن محمود الكاتب العام وقد كان الغرض من ذلك استمالة صهره الوزير الأكبر الهادي الأخوة ، أما الشيخ محمد الصالح فيكون نائب الكاتب العام . وأعدوا القانون الأساسي للجمعية وتوجهوا إلى شيخ الجامع آنذاك الشيخ محمد الطاهر بن عاشور على أن يقدمه بدوره للحكومة. وبعد تردد على مشيخة الجامع وزيارات عديدة أعلمهم الشيخ ابن عاشور أن الحكومة لا توافق على تأسيس جمعية باسم العلماء بهيئة الجامع وبذلك سقط هذا المسعى .
الشيخ يؤسس نقابة علماء الزيتونة
وفي تلك الأثناء صدر قانون في فرنسا وصادق عليه الباي أيضا. ويسمح هذا القانون بتأسيس نقابة لكل من يجمعهم حرفة أو وظيفة واحدة وبمجرد إعلام السلط بقانون عملها ومسيريها تتمتع بشرعية العمل فاغتنم الشيخ محمد الصالح هذه الفرصة الذهبية ليكوِّن نقابة مشائخ المدرسين للجامع الأعظم وفروعه تحت اسم «نقابة العلماء» سنة 1933. وعين كاتبا عاما لها بعد أن قدم مطلبا في ذلك وأخذ الوصل. ولم يكن من السهل أن تجد هذه النقابة طريقا ممهدا للعمل. فالشيخ الطاهر بن عاشور يرفض نقابة في الجامع وكذلك أحمد باي الثاني ووزارة الداخلية وحتى الزيتونيون يخشون تشكيل نقابة يرفضها الشيخ الطاهر بن عاشور. لذلك دعي الشيخ محمد الصالح يوما إلى وزارة الداخلية في جو مرعب وهدد بالسجن لكنه رفض التراجع وحلّ النقابة وأصرّ على موقفه غير عابئ بالتهديدات رغم تراجع معظم مؤيديه.
الشيخ في خضم معمعة التجنيس
وفي تلك الأثناء برزت في الساحة الزيتونية قضية شائكة أحدثت صراعا بين جانب من الزيتونيين وشيخ الجامع الأعظم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إذ اتهم هذا الأخير من طرف الزيتونيين بأنه أفتى في مسألة التجنيس. فأضرب الطلبة يريدون إقالته.
فرنسا تثير التونسيين بقانون التجنيس
كان الفرنسيون يريدون أن يلحقوا تونس بفرنسا وكانت تزاحمهم في ذلك إيطاليا فرأوا أن يفتحوا باب التجنيس في وجه المثقفين التونسيين حتى لا يبقى أمام إيطاليا مبرر لمطامعها في تونس. وقد أحدثت هذه الدعوة للتجنيس بلبلة في البلاد وأصدرت هيئات في تونس والمشرق فتاوى بأن المتجنس خارج عن الإسلام.
وتستفتي حول دفن المتجنسين
وفي 1932 توفي متجنس في بنـزرت وأفتى الشيخ إدريس الشريف بأن المتجنس كافر ومرتد ولا يجوز دفنه في مقابر المسلمين. فقام سكان بنـزرت ومنعوا دفنه في مقبرة المسلمين وتكررت هذه العملية مع كثير من المتجنسين محدثة قلاقل في البلاد فلم تجد الحماية من حل لهذه المعضلة غير استشارة بعض التونسيين فأشير عليها بأن تصدر فتوى في قبول توبة المتجنس حتى لا تقع متابعته عند موته ودفنه ويقال إن الذي أعد سؤال الفتوى هو الشيخ الطاهر بن عاشور وكان السؤال كما يلي: «المتجنس بجنسية دولة تخالف قوانينها الشخصية قوانين الإسلام ثم تاب وأعلن توبته، هل تقبل توبته؟» وكان السؤال وضع للإجابة بقبول التوبة. وحتى لا تبقى معارضة قوية لهذه الفتوى في ديوان المجلس الشرعي عزل من كان معروفا بشجاعته وهو الشيخ أحمد بيرم عن هذا الديوان.
تحميل الشيخ محمد الصالح ورفاقه مسؤولية الإضراب ضد فتوى التجنيس
لم تهدأ البلاد رغم ذلك بل هاجت وماجت وقامت مظاهرات في معظم المدن التونسية وواصل الطلبة إضرابهم. واتهم الشيخ محمد الصالح بأنه محرض الطلبة على الإضراب فأوقف عن العمل مع قطع الجراية وكذلك الشيخ إبراهيم النيفر بتهمة الإفتاء في التجنيس كما أوقف الشيخ الشاذلي بلقاضي لأنه فتح بابه للاجتماعات وسحبت رخصة التدريس من الشيخ المهدي النيفر
نهاية الإضراب وتوقف التتبعات ضد الشيخ ورفاقه
رأت الحكومة من الحكمة أن تدرس الأمر وسعى المقيم العام الفرنسي بيروطون لحل الإضراب بالقضاء على أسبابه. فخير الشيخ ابن عاشور بين خطتين: «مشيخة الإسلام» أو «مشيخة الجامع». فاختار الأولى على الثانية. وهكذا انحل الإضراب وأعلنت السفارة الفرنسية رفع الإيقاف عن الشيخين إبراهيم النيفر والشاذلي بلقاضي دون الشيخ محمد الصالح النيفر. لكن المقيم العام درس المشكل فرفع إيقافه مع البقية وأبلغهم شيخ الجامع الجديد الصالح المالقي بذلك مجتمعين.
نضال الشيخ من أجل المدرسين الزيتونيين
انشغال بأوضاع المدرّسين
بعد انحلال الإضراب ورفع الإيقاف عنه وعن زملائه راح الشيخ محمد الصالح يفكر في الوضعية المزرية للزيتونيين في ظل الاستعمار الفرنسي والموقف السلبي للحكومة التونسية. فقد كانت الكلية الزيتونية آنذاك تعتبر مؤسسة دينية خاصة لا علاقة لها بالوظيفة العمومية وبامتيازاتها وكان مدرسوها يتقاضون أجورا زهيدة جدا من وزارة الأوقاف ولم يكن لهم ضمانات اجتماعية ولا قانون أساسي. ثم إن شهائد خريجي الكلية الزيتونية لم تكن تتمتع بالمعادلة مع شهائد الكليات الحكومية.
... وثورة على الوضع
أثار هذا الوضع المتردي حفيظة الشيخ محمد الصالح ضد السلط وضد الزيتونيين خاصة إذ كان يرفض مواقفهم المتخاذلة وينكر عليهم عادة الانحناء لشيوخهم عند التحية وسكوتهم عن أوضاعهم البائسة ورضاهم بالدون. وكان ناقدا لبرامج التعليم الزيتوني ومناهج تدريسه التي يراها لا تستجيب لتطلعات الشباب وحاجتهم لمعارف أخرى إلى جانب العلوم الدينية. وكان يسعى لتحسيس زملائه بواقعهم والعمل على تغييره. ولم تجد دعوته أذنا صاغية لدى معظم شيوخ الزيتونة أول الأمر إذ اتهم بأنه مجازف لا يفكر في العواقب حتى أنه فكر يوما في التخلي عن التدريس ليعمل فلاحا في ضيعة أبيه بطبربة.
السير نحو إضراب الزيتونة أواسط الأربعينات
لم يكن الشيخ ليتخلى عن برنامجه الإصلاحي بمثل هذه السهولة أو ييأس من صحوة المدرسين والتفكير في وضعيتهم الحرجة وكان ينتهز كل فرصة لتحريك سواكنهم وقد ظهرت البادرة الأولى لدى المدرسين الشبان الذين تحمسوا لفكرة الإضراب في أواسط الأربعينات فأسرع الشيخ لتحرير مطالبهم بوصفه الكاتب العام لنقابة المدرسين. وتمثلت هذه المطالب في إلحاق الكلية الزيتونية ومدرسيها بالوظيفة العمومية مع التمتع بحقوق الترسيم والتنظير وذهب بهذه المطالب إلى شيخ الجامع الصالح المالقي الذي وعده بأن يبلغها إلى الحكومة. ولم يقبل مرافقته في هذه المهمة إلا مدرس واحد واتهمه بعض زملائه بأنه مغامر ومجازف لأن مثل هذه المطالب يستحيل تحقيقها. طلب الوزير الأكبر التفاوض مع وفد يمثل المدرسين وكان الوفد برئاسة العربي الماجري وعضوية الشيخين محمد الصالح النيفر والهادي بلقاضي. وفي الاجتماع اعترف مدير الداخلية بالجرايات الزهيدة للمدرسين وأمر لهم بمنحة وزيادة في الأجور. لكن الاجتماع لم ينته باتفاق.
الشيخ يفشل مناورة السلطة لإجهاض الإضراب
وبعد ورود رسالة من الباي تدعو إلى إيقاف الإضراب وقعت دعوة الأساتذة للاستماع إليها فحرص الشيخ محمد الصالح أن يكون الاجتماع بمحراب الجامع حتى يحضره الطلبة لما بلغه أنه مهدد بالسجن وخوفا من ضعف المدرسين. واقترح الشيخ الهادي بلقاضي تأجيل الإضراب أخذا بخاطر الباي (الأمين) حتى يقف إلى جانب المدرسين. لكن الشيخ محمد الصالح استدرك أمام الطلبة بقوله: «بل خوفا من السجن لأننا مهددون بالسجن إذا نحن أضربنا». فتحمس الطلبة وقرروا أن يتم الإضراب في موعده. وبذلك دخل جامع الزيتونة سنة 1944 في إضراب دام ما يزيد عن الشهرين فكان أطول إضراب عرفته البلاد. وتكونت لجنة للتفاوض مع الحكومة.
تباين الموقف من إضراب المدرسين الزيتونيين بين السلطتين الفرنسية والتونسية
لما اطلع المقيم العام الفرنسي على ملف المطالب وعد بترفيع الأجور لا الاعتراف بالكلية الزيتونية كمؤسسة رسمية لأن إدارة المعارف يشرف عليها فرنسي والزيتونة يشرف عليها تونسي ولا يمكن أن يكون لإدارة واحدة رأسان في نظره. وكان الأمين باي يظهر مساندته للإضراب الزيتوني وأن الكلية الزيتونية هي الرسمية في البلاد ويجب الاعتراف بها، وكان الوزير الأكبر الهادي الأخوة على نفس الموقف.
خلاف في لجنة التفاوض الزيتونية ينتهي باستقالة الشيخ الفاضل بن عاشور
كانت اللجنة التي يرأسها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، باعتباره يجيد الفرنسية، تتفاوض مع المقيم العام الفرنسي للوصول إلى حل ولكن دون جدوى. وقد تبين للشيخ محمد الصالح أن الشيخ الفاضل بن عاشور لا يصارح السلطة الفرنسية بمطالب اللجنة وتوجهاتها. وفهم ذلك لما التفت المقيم العام الفرنسي في جلسة من الجلسات إلى الشيخ الفاضل بن عاشور وقال له: «ليس هذا الكلام الذي ذكرته لي بالأمس»، ردا على مخاطبة الشيخ محمد الصالح للمقيم بقوله: «إن التعليم الزيتوني هو الرسمي في البلاد والتعليم الحكومي هو الثانوي». فقرر الشيخ محمد الصالح أن ينسحب إما هو وإما الشيخ الفاضل من اللجنة. فانسحب هذا الأخير.
أصداء الإضراب
أثر الإضراب الزيتوني على البلاد تأثيرا كبيرا خاصة في الحركة التجارية وكانت الحكومة تحرص على عدم قطع الصلة مع لجنة التفاوض حيث كان موقفها حرجا من حالة البلاد التي شل معظم نشاطها الاقتصادي. كما كان للإضراب صدى في العالمين العربي والإسلامي. وأوقف الشيخ محمد الصالح عن العمل مدة ستة أشهر مع ثلة من المدرسين الذين نشطوا معه مثل الشيخ إبراهيم النيفر والشاذلي بلقاضي وغيرهم مع الحرمان من الجراية.
نجاح الإضراب ورضوخ الإدارة لمطالب الزيتونيين
وبعد صراع مرير ومفاوضات طويلة مع الحكومة التونسية والسلط الفرنسية التي لم تجد بدا، والبلاد مضطربة، من الاعتراف في نهاية الأمر بمطالب النقابة وتكونت لجنة لمعادلة الشهائد وحرص الكاتب العام الفرنسي«بروي» (1) على حل مشكلة الجامع وذلك بإقرار مطلبي الترسيم والتنظير فحققت بذلك نقابة المدرسين وعلى رأسها كاتبها العام الشيخ محمد الصالح النيفر مكاسب مادية ومعنوية. فالمادية تتمثل في تنظير مدرسي جامع الزيتونة بالمجازين أما المعنوية فتتجلى في رد الاعتبار للمدرسين وحفظ جامع الزيتونة من التلاشي. وقد قال الشيخ محمد الشاذلي النيفر خطبة التأبين متحدثا عن دور الشيخ محمد الصالح في هذا الإنجاز: «وفضله على الزيتونة لا ينساه له التاريخ فقد كانت الزيتونة في سلة المهملات لا يتقاضى رجالها ما يسد الرمق لأن السياسة الفرنسية ترى أن التعليم الزيتوني حجر عثرة في تقدم الاستعمار، فبذل الشيخ محمد الصالح جهدا مع كل من شارك في انتشال الزيتونة من سلة المهملات وأعاد لرجالها اعتبارهم».
مساعي الشيخ من أجل مساعدة زملائه المتضررين من الحرب
وقد خلفت الحرب العالمية الثانية أزمة حادة في البلاد فتكونت لجان لإعانة الأهالي للحصول على المأكل والملبس وتدخل الشيخ محمد الصالح بعد رفع الإيقاف عنه وعن زملائه لفائدة المدرسين وخاصة منهم ضعاف الحال للحصول على إيصالات حتى ينالوا نصيبهم من الأمتعة واللباس لهم ولأبنائهم.
مظاهر أخرى من نشاط الشيخ
لم يكن نشاط الشيخ مقتصرا على النقابة أو السياسة فحسب، بل كان همه الأكبر تكوين شباب مسلم لا يعتمد في نشاطه على أفكار مستوردة من السياسة الأوروبية بل شباب يؤمن بأن الإسلام قوة في ذاته ويبقى دوما المنطلق إذ يرى أن المسلمين في أوج قوتهم لم يعتمدوا على أوروبا في تكوين دولتهم. وكان يسعى لغرس العقلية القائمة على الإيمان بالغيب في نفوس الشباب. فالتاجر مثلا يتجنب الغش لا خوفا من الحريف بل من الله اعتقادا منه أن المال الحرام لا يثمر، كما كان يقنع الشباب ةبأن الاتجاه العقلاني وحده لا يؤدي إلى نتيج، وإنقاذ الأمة الإسلامية لا يتحقق عن طريق العلمانية. وكان الشيخ يبث أفكاره في الصحف والمجلات التونسية وسعى للحصول على رخصة نشرية تحمل اسم «اللسان» لكن طلبه رفض ثم قدم طلبا ثانيا باسم السيد نور الدين بن محمود خريج الليسي الفرنسي للحصول على رخصة مجلة تحمل اسم الجامعة فتحصل عليها في 1937 وتولى الشيخ رئاسة تحريرها.
حياة الشيخ مع جمعية الشبان المسلمين
تأسيس الشبان المسلمين
بعث السيد عبد الرحمان الكعاك ناديا مدرسيا متفرعا عن الجمعية الخلدونية سماه جمعية الشبان المسلمين وذلك على غرار ما يوجد بمصر. ومن أعضائها السادة الرشيد إدريس والصادق بسيس وعزوز الرباعي ويوسف بن عاشور وابن عزوز وهم مدرسيون. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية توقف نشاط الجمعية وزج بأعضائها في السجن ولم يطلق سراحهم إلا بعد هيمنة ألمانيا على فرنسا.
...وتحولها إلى جمعية مستقلة برئاسة الشيخ محمد الصالح
ونظرا لكثرة الخلاف بينهم وخوفا على مصيرهم من السلطة عرضوا على الشيخ محمد الصالح رئاسة الجمعية فقبل بشرط أن يتبع الاتجاه الذي يرى فيه الحق ولو كان رأي الأقلية. رفضوا أول الأمر ثم وافقوا على شروطه لاعتقادهم أن الزيتونيين عجزة. وبهذه الطريقة تمكن من أخذ زمام جمعية الشبان المسلمين وتحصل على الرخصة الرسمية برئاسته وبذلك استقلت عن الخلدونية واكترى من ماله الخاص محلا بنهج محسن جعله مقرا لها وبذلك وجد الشيخ مجالا واسعا للعمل بكل حرية .
توسع نشاط الجمعية تحت قيادة الشيخ
كان الموضوع الرئيسي المطروح في جدول أعمال الجمعية: كيف يُرَبَّى الشباب؟ وشيئا فشيئا أخذ نشاط الجمعية ينمو وفروعها تزداد وتنتشر انتشارا جغرافيا منظما في كافة أنحاء البلاد لتصل إلى 113 فرع . وقد كان لجمعية الشبان نشريات ومجلات مثل مجلة الشبان المسلمين والسيدات المسلمات تتناول مواضيع هامة وتخدم مشاريع الجمعية وتكتب فيها نخب مرموقة من رجال الدين والفكر والأدب. وقد انتهز الشيخ فرصة تراخي السلطة الفرنسية بعد دخول الألمان إلى تونس ليكثف من نشاط الجمعية وينوعه ومن مظاهر هذا النشاط : - نشر الإملاءات القرآنية وإحداث مباريات في حفظ القرآن في صفوف الأطفال والشباب ورصد شهادات رسمية وجوائز للغرض . - تكوين مكتبة لاقت إقبالا من طلبة الشباب المدرسي والزيتوني على حد سواء. - تعليم الأميين من الجنسين القراءة والكتابة ومبادئ الفقه والتاريخ الإسلاميين. - إحداث محل سكنى لطلبة جامع الزيتونة من حفاظ القرآن ومقره نهج الباشا. وكان رفض الشيخ التعاون مع الألمان مهد له مع الإدارة الفرنسية كل السبل للحصول على مقر دار الطلبة وأراض لبناء المدارس. فقد زاره أحد ضباط الغاستبو في مقر الجمعية وكان صحبة الشيخ الشاذلي النيفر ، فعرض عليه أن يخصص لهم ساعة في الإذاعة لمخاطبة الرأي العام التونسي سعيا للدعاية لالصالح ألمانيا فرفض الشيخ. وعندما انسحب الألمان بعد هزيمتهم في تونس وجد الفرنسيون في الوثائق الألمانية تقريرا من الضابط المذكور يشير إلى رفض الشيخ التعاون فعرضوا عليه كل التسهيلات التي يريد. - تكوين فرق كشفية للشبان المسلمين وفروعها ببنـزرت والعالية شمالا تحت إشراف السيد حمودة بوقطفة وبقابس جنوبا. - إلقاء محاضرات في شتى المواضيع ودروس في الوعظ والإرشاد. - إحياء المناسبات الدينية على اختلافها ورأس السنة الهجرية بداية من 1946. - كما أظهرت الجمعية وعيا بأهمية الجانب الاقتصادي في تحقيق الاستقلال. لذلك قرر مؤتمرها الأول المنعقد في 1945 تكوين شركة مساهمة لدعم التوجه الاستقلالي.
تأسيس فرع نسائي للجمعية
في 1945 أنشأت جمعية الشبان فرعا نسائيا لبث الوعي بين النساء ويدعى «السيدات المسلمات» وكانت تشرف عليه السيدة سعاد ختاش عقيلة الشيخ محمد الصالح النيفر مستعينة بمجموعة ناشطة من النساء ينتمين إلى عائلات وجيهة في البلاد أمثال السيدة درة بن عبد القادر وشريفة فقوسة والسيدة زكية بن عمار عقيلة رئيس الحكومة التفاوضية بعد 1954 السيد الطاهر بن عمار، وزهور قلاتي وزهرة بوحاجب وسارة صفر حرم بلقاضي وزينب مملوك والدكتورة حسيبة غيلب وزينب ميلادي وليلى حجوج وزينب الجبالي. ومن أنشط فروع «السيدات المسلمات» فرع المرسى المتألف من حبيبة زروق حرم الطاهر السنوسي (رئيسة)، رقية بن عاشور (كاهية)، عفيفة الأخوة (أمينة مال)، نائلة بن عاشور (كاتبة مالية)، ليلى السنوسي (كاتبة)، وسيلة القسطلي حرم الشيخ الشاذلي النيفر وزكية زروق (عضوتان). ومن إنجازات «السيدات المسلمات» إحداث صندوق للمعوزات من البنات لمواصلة دراستهن وكذلك توعية المرأة الأمية وتعليمها عبر إحياء حفلات خيرية لتمويل مشاريعها، وتأسيس مدارس إسلامية لتعليم البنت التونسية وإعانة المعوزات منهن على مواصلة التعليم. فقد كان الرأي العام التونسي يعارض بشدة تعليم البنت التونسية خشية فرنستها، ومعاهد البنات قليلة وتقتصر على العائلات المترفة بينما مدارس الراهبات كثيرة في البلاد . فنظم الشيخ محمد الصالح اجتماعا موسعا بنهج الباشا دعا له مختلف الفئات النشيطة في البلاد وعرض عليهم مشروع إنشاء مدرسة إسلامية لتعليم البنت وإقناع الآباء بهذه الفكرة لحماية بناتهن من الجهل والضياع والتنصير وإحياء هويتهن العربية الإسلامية وشعاره في ذلك: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
لاقى المشروع ترحيبا ومساندة وفي سنة 1947 بدأ بناء «مدرسة البنت المسلمة» بنهج السراجين وتم بعد سنتين ولازال صرحها قائما إلى الآن. وأحدث فرعا لها بباب الخضراء بنهج البشير صفر وكان يديره ابنه محمد المرتضى، وفرعين بحمام الأنف وماطر. كما أحدثت رياضا للأطفال بباب منارة وباب الخضراء. وساهم في هذا المشروع متبرعون أمثال الأخضر بن عطية وهو فلاح ثري ومحمد الصالح ختاش صهر الشيخ محمد الصالح النيفر والطاهر الأخضر المحامي وأحمد الباقوري وزير الأوقاف المصري وغيرهم. ولاحظ الشيخ محمد الصالح أن الفتاة التونسية التي احتضنها في روضة الأطفال ثم في مدرسة البنت المسلمة الابتدائية لا يمكنها أن تواصل تعليمها الثانوي مثل زميلها الشاب فسعى في 1953 مع إدارة الجامع الأعظم الذي يديره قريبه الشيخ علي النيفر لإنشاء فرع للتعليم الزيتوني للبنات وكُلِّف الشيخ محمد الصالح بإدارته وتدوم الدراسة فيه سبع سنوات تفضي إلى الحصول على شهادة التحصيل بجزئيها (ما يعادل الباكالوريا). كما سعى إلى تعصير برامج التعليم الزيتوني عموما حتى أصبحت شهادة التحصيل تسمى شهادة التحصيل العصري. وقد عرفت هيئة السيدات المسلمات بتشجيعها للمرأة المتعلمة من ذلك إقامتها لحفل استقبال للسيدة فتحية مختار مزالي أول امرأة تونسية تتحصل على الإجازة. كما احتضنت هيئة السيدات مولودا جديدا للجمعية هو "دار الرضيع" وذلك لإنقاذ الطفولة البائسة واللقيط من التنصير والإهمال ومقره بنهج الباشا. وتماشيا مع الاهتمامات الوطنية لجمعية الشبان، اهتمت هيئة السيدات المسلمات بالمناضلين من المساجين السياسيين فكانت تطبخ لهم الأطعمة وترسلها لهم في سجونهم.
علاقة الجمعية بالحزب الجديد وزعيميه في عهد الحماية
كان الشيخ يساند المقاومة أدبيا وماديا دون أن ينخرط في الحزب (الحر الدستوري الجديد) أو يشارك فيه ، وكان بورقيبة يسعى لاستمالة الزيتونيين والحصول على ثقتهم لأنه يدرك وزنهم في الشارع التونسي آنذاك وعرف كيف يراوغهم بأساليبه ووعوده الكثيرة لذا اعتمدت المقاومة عليهم اعتمادا كبيرا. فالمظاهرات كانت تخرج من صفوفهم أكثر من غيرهم والشباب الزيتوني هو المقاوم البارز الذي يخشى منه في الشارع التونسي. وكان بورقيبة يتردد على مقر جمعية الشبان المسلمين ويحضر اجتماعاتها ويبدي إعجابا شديدا بمشاريعها حتى أنه التزم مع الشيخ بأن يحقق جميع الإصلاحات التي تراها الجمعية الصالحة للبلاد وأن يتقيد بالشرع الإسلامي إذا فاز على منافسه الصالح بن يوسف ورجع النفوذ إليه. أما الشيخ فكان معجبا بذكاء بورقيبة وسعة اطلاعه ووصفه في إحدى خطبه بأنه رجل الساعة وسيد الموقف. لكن اتضح له من خلال حضوره المكثف للاجتماعات أن حزبه (الحزب الحر الدستوري الجديد) يرغب في الاستحواذ على جميع الحركات في البلاد فصار يحترز منه ولكن يراه أصلح للبلاد من الصالح بن يوسف وجماعته لأنهم يساندون جمال عبد الناصر وينادون بالقومية العربية ولا يلتزمون بالنظام الإسلامي. وقبيل الاستقلال أصبح التونسيون منقسمين إلى اتجاهين: شق يتبع بورقيبة والآخر من أتباع الصالح بن يوسف، الأول من أنصار رئيس الحكومة الفرنسي اليهودي منداس فرانس والثاني من أنصار جمال عبد الناصر، أما الشيخ فقد حرص على ألا يكون لا مع هذا ولا مع ذاك.
علاقة الجمعية بالاتحاد العام التونسي للشغل
لم يكن الشيخ محمد الصالح حزبيا ولما تكون الاتحاد العام التونسي للشغل دعاه السيد فرحات حشاد لمؤازرته حيث كانت معظم الاتحادات آنذاك تابعة للاستعمار. فوعده الشيخ بذلك بشرط أن يكون للزيتونيين امتياز كأن يكونوا فرعا من الاتحاد يترأسه زيتوني. وبموافقة الشهيد حشاد دخلت نقابة المدرسين تحت راية الاتحاد. وكانت الهيئات تجتمع لإعداد ما يمكن تطبيقه إذا حصلت البلاد على استقلالها. ولكن تبين للشيخ شيئا فشيئا أن النقابات تجتمع بإيحاء من الحزب (الجديد) فقط وأن هذا الأخير استحوذ على جانب كبير من النقابات. وكان للحزب اجتماعات سرية تقرر ما يوحى إليها بحكم تعاملها مع جهات أجنبية. وحينما تأكد الشيخ من هذه الأمور حرص على أن يبتعد بجمعية الشبان المسلمين ونقابة المدرسين عن هذه الحركات دون أن يفقد العلاقة الطيبة مع الاتحاد.
(1) René Brouillet : À la Libération, il devient directeur de cabinet du général de Gaulle, puis secrétaire général du gouvernement tunisien de 1946 à 1950. Voir René Brouillet, source Wikipédia.
Par Chiheb-Eddine Ennaifer,overblog www.ennaifer.ch
▬▬