مداخلة السيدة ابتسام بن حفصية بمناسبة يوم القدس العالمي
29 رمضان 1433 – 17 أوت 2012
بسم الله الرحمان الرحيم
عنوان المداخلة :
الصحافة اليهودية في تونس في النصف الأول من القرن العشرين:بين خطر التفرقة وتصدي النخب المسلمة
"الشيخ محمد صالح النيفر نموذجا ''
يحيلنا العنوان الر ثلاث محاور أساسية:
المحور الأول: الصحافة اليهودية في تونس وهو مبحث لا يعلمه الكثيرون بل قد لا يعلمه إلا بعض الباحثين في مجال الحضارة فهي صحافة بقدر ما كانت فاعلة في عصرها بقدر ما تلاشى ذكرها وطمرت في تاريخنا الحديث.
المحور الثاني:المتمثل في الخطر الصهيوني التي ظهرت حملاته على أعمدة بعض الصحف اليهودية وفي هذا المحور لن نعرف بالصهيونية كحركة ونما سنوضح كيفية توظيفها لبعض الصحف اليهودية لتعميق الهوة بين اليهود التونسيين وأرض الأجداد وتحفيزهم على الهجرة الجماعية إلى إسرائيل من خلال حملات صحفية شعواء ضد النظام السياسي والقضا ئي ولكن أيضا ضد بقية أفراد الشعب من المسلمين.
المحور الثالث: الشيخ محمد صالح النيفر مشروعه الفكري في التصدي لما يهدد الأمة من خطر الانشقاق والتفرقة وهو مشروع منقسم بدوره إلى قسمين:
1-التصدي المباشر للحركة الصهيونية ومساندة القضية الفلسطينية.
2-تصدي غير مباشر من خلال الدعوة إلى الوحدة الوطنية وتهيأت النشأة دينيا وأخلاقيا لمقاومة مثل هذا الفكر المتطرف.
1/الصحافة اليهودية في تونس في النصف الأول من القرن العشرين:
من الضروري في البداية قبل التعريف بالصحافة اليهودية أن نرفع إي التباس بين الصحافة اليهودية والصحافة الصهيونية.
فالصحافة اليهودية في تونس كانت لسان حال الأقلية اليهودية التي كانت تعبر من خلالها عن همومها وشواغلها وكانت كغيرها من الصحافات خاضعة إلى عدة تجاذبات فكرية وسياسية ولم تكن الصحافة الصهيونية إلا جزءا منها.
نشأت الصحافة اليهودية في تونس مع بداية تدوين الكتابة اليهودية العربية وهي كتابة خاصة باليهود التوانسة ( وهنا لا نعني التونسيين بل "التوانسة" وهو مصطلح يطلق على اليهود الذين يعود تواجدهم في تونس إلى ما قبل ميلاد المسيح)
وهذه الكتابة هي عبارة عن تمثيل صوتي بواسطة أصوات وحركات عبرية للهجة التونسية العامية ثم تطورت هذه الصحافة مع ظهور الصحف اليهودية المكتوبة بالفرنسية لتدافع عن مصالح المجموعة اليهودية وتواكب الأنشطة السياسية والفكرية لمختلف الأحزاب والتيارات السياسية اليهودية الناشطة في تلك الفترة.امتد نشاط هذه الصحافة من نهاية القرن التاسع عشر إلى الستينات من القرن العشرين وقد عرف مسار تطورها ثلاث منعرجات حاسمة:
المرحلة الأولى: المرحلة التأسيسية بداية من سنة 1878 تاريخ إصدار أول صحيفة يهودية تونسية لصاحبها ابراهم الطيب مرحلة امتدت إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى وأكثر ما يميزها علو مستوى الشكل صدورها بالكتابة اليهودية العربية أما على مستوى المضمون فكانت ذات طابع ترفيهي وتثقيفي وتعليمي ولم تكن تحمل في المجمل أهدافا سياسية تذكر وبالتالي فإنها لم تتجاوز في تلك الفترة مرحلة الهواية.
المرحلة الثانية مرحلة الحرفية:
هي مرحلة ازدهار تبلورت فيها الصحافة اليهودية وتجسدت فيها الحرفية على مستوى الشكل والمضمون ومن أهم مميزاتها تحول لغة الكتابة من اليهودية العربية إلى اللغة الفرنسية, وهذا التحول كان نتاجا لحركة التغريب التي خضع لها اليهود والى التغييرات الفكرية والسيسواقتصادية التي طرأت على المجموعة اليهودية في تونس عقب انتصاب الحماية بالإضافة إلى تنام الحركات الوطنية وحركات المقاومة التي وضعت الفرد اليهودي أمام حملة من التساؤلات والمفاهيم المتعلقة بهويته ومدى ارتباطه بالرقعة الجغرافية التي يعيش فيها إذ لم يكن مفهوم الانتماء إلى الوطن واضحا آنذاك لذلك عاشت الأقلية اليهودية في تلك الفترة حالة من التمزق والتجاذب بين "التونسة والفرنسة" إن صح التعبير بين المحافظة والحداثة , بين الديني واللائكي وهو وضع لم يكن حكرا على اليهود فحسب بل على المسلمين أيضا (وهي نقطة سنأتي على ذكرها لاحقا من خلال حديثنا عن الدور الذي لعبه الشيخ محمد صالح النيفر للتصدي إلى حركة التغريب التي طرأت على المجتمع التونسي) هذه الحركة التي لم تستطع الأقلية اليهودية الصمود أمامها بما أن الخصوصية التي تتميز بها في الدين واللغة والثقافة تغذي فكرة الاغتراب والإحساس بالدونية أمام اية وضعية صدامية مع الأخر.
وتعتبر مرحلة ما بين الحربين مرحلة ثرية على مستوى الأحداث السياسية والمتغيرات العالمية والمحلية كما أنها فترة حساسة وحاسمة في تاريخ اليهود المعاصر اذا شهد العالم آنذاك احتدادا للحركة الصهيونية قابلتها نهضة في حركات المقاومة العربية لذلك اقتضت ظروف المرحلة نشاطا غير عادي في الصحافة التونسية عموما والصحافة اليهودية على وجه الخصوص فكانت هذه الصحف تمثل حقا صدى صوت المجموعة اليهودية على اختلاف تياراتها ومن نتائج المرحلة انقسام اليهود في تونس(وبالتالي الصحافة اليهودية) إلى ثلاث اتجاهات سياسية كبرى.
التيار المحافظ المتمسك بجذوره رغم بعض التحفظات
-التيار الحداثي المتطلع إلى الانعتاق من سلطة القانون التونسي والاندماج في الجنسية الفرنسية
-التيار الصهيوني التنقيحي المتطلع الى أرض الميعاد.
ويمكن أن نستند في هذا التقسيم إلى مقال صادر في صحيفة المساواة اليهودية صدر يوم 12 جويلية 1929 الموافق للرابع من تموز سنة 5689 بالتقويم العبري في الصفحة الأولى كتبه فليكس بجاوي وهو ملخص فلعليات الاجتماع الحاخامي الكبير بتونس وقد ورد فيه ما يلي:
''إن كل مسألة يهودية تونسية مهما كانت بسيطة تصبح بسرعة قضية وذلك لسبب وحيد هو أن الرأي العام اليهودي مقسم إلى ثلاث. المتحدثون الثلاث هم ثلاث صحف: المساواة العدالة واليقظة اليهودية.
-الأقل هو لسان حال اليهود المحافظين وهم يؤيدون الاستيطان في فلسطين دون أن يكونوا مؤيدين بصفة خاصة للصهيونية.
الثاني: لسان حال الحداثيين وهم من أنصار فرنسا.
وأخيرا: اليقظة اليهودية التي لا تمثل بشجاعة الصهيونية فحسب بل القومية اليهودية أيضا'' انتهى
إن هذا المقتطف يلخص كل ما سنأتي على ذكره ويعبر عن واقع الصراع الفكري والسياسي في صفوف اليهود في تونس كما يراه اليهود أنفسهم كما يبين المقال إلى أي مدى كانت هذه التيارات فاعلة وقادرة على التأثير في المجموعة اليهودية من خلال الترويج لأفكارها وإيديولوجياتها عبر الصحافة. وفيما عدا التيار المحافظ الذي بقي تيارا فكريا ولم يتسم بأي صبغة سياسية رسمية فان باقي التيارات تحولت إلى أحزاب سياسية.
فقد تحول التيار الحداثي إلى حزب سياسي مع بداية الثلاثينات تحت اسم حزب الحركة والانعتاقاليهودي وهو حزب متأثر في أفكاره وتسميته بالثورة الفرنسية وفلسفة التنوير.
في حين تحول التيار الصهيوني من "الصهيونية الدينية" التي تعتبر موروثا ثقافيا قائما على مفهوم العودة إلى صهيون,إلى "صهيونة سياسية" ولم تصبح حزبا سياسيا في تونس إلا بداية من سنة 1914 لتأخذ شكلها الثالث مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وتتحول إلى" صهيونية التهجير" وأول من شارك في هذا الحزب مجموعة كبيرة من المجنسين المحبطين بعد أن تخلت عنهم فرنسا اثر الاجتياح الألماني
المرحلة الثالثة للصحافة اليهودية هي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثالثة تراجعت فيها الصحافة اليهودية ولم يصدر منها إلا ثلاث عناوين وأولها الصباح التي صدرت سنة 1936 ثم صحيفة ''لابراس'' التي أصدرها هنري سماحة سنة 1936 وأخيرا صحيفة إسرائيل.هذا التراجع له عدة أسباب أهمها
- دخول الجيش النازي وتنكيله باليهود في تونس
- هجرة اليهود من أصحاب الجنسية الفرنسية إلى أوروبا اثر خروج الاستعمار الفرنسي
-الهجرة الجماعية المكثفة باتجاه إسرائيل التي حفزها التيار الصهيوني بتونس الذي كان يتصيد كل شعور بالاضطهاد في صفوف اليهود في تونس ليضيق عليهم الخناق فلا يترك أمامهم إلا خيار الهجرة.
وفي هذا السياق يقول مردوخاي سماجة الأب الروحي للتيار الحداثي في تونس في كتابه "توسيع رقعة التشريع والجنسية الفرنسية '' لقد كان الدين هو الملاذ الوحيد الذي يحتمي فيه أصحاب النفوس الضعيفة لذلك كانت عيونهم موجهة دائما إلى إسرائيل حلم كل إسرائيلي مضطهد. إن إحساس الصهيونية لا يوجد إلا عند الإسرائيليين فقط أما من ينعم بنفس حقوق غيره من المواطنين فان هذا الإحساس مجهول تماما '' انتهى
إن الثغرات التي كانت تعاني منها القوانين المدنيّة و الشرعيّة في القضاء التونسي إلى حدود النصف الأوّل من القرن العشرين مثلت نقطة ايجابيّة بالنسبة إلى التيّار الصهيوني ارتكز عليها لاستقطاب أكبر عدد من اليهود وزجهم أمام بوّابة الهجرة إلى إسرائيل. ما نريد أن نصل اليه في النهاية هو أنّ الصهيونيّة لم تكن نتيجة لأحداث تاريخيّة بقدر ما كانت فكرة تصنع الأحداث لتكتمل فهي خاضعة في نشوتها و تطوّرها لثلاث مراحل أساسيّة :
أوّلا : مرحلة الإيمان المتمثلة في "الصهيونيّة الدينيّة"
ثانيا : مرحلة التخطيط المتمثلة في " الصهيونيّة السياسيّة"
ثالثا : مرحلة التطبيق المتمثلة في "صهيونيّة التهجير"
لقد استطاعت هذه المدوّنة (الصحف اليهوديّة) أن تواكب نشوء فكرة القوميّة و تطوّرها في مراحلها الثلاث و في كل مراحل بناء الكيان الصهيونية تأسيسه من خلال إبراز وجهات نظر التيارات السياسيّة و الفكريّة اليهوديّة سواء أن كانت محافظة أو اندماجيّة أو صهيونيّة فإنها تتفق رغم اختلاف الدرجات على أهمّية بناء "الدّولة الصهيونيّة" على أرض فلسطينيّة.
وفي هذا السياق يتحدّث "هنري معارك في كتابه النشاط الصهيوني في تونس عن دور الصحف الصهيونيّة في العمل الدّعائي السياسي و يقول " لقد أعطت بعدا جديدا للتطلّعات الماشيحانيّة المبهمة لدى الجماهير ورسّخت في أذهاننا تعريفا أكثر علميّة و واقعيّة للقوميّة اليهوديّة التي ننتظر كلنا ساعة ترميمها لقد مهّدت لنا هذه الجرائد الطريق و جنّبتنا مشقّة الانطلاق من الصفر" انتهى الشاهد
و لا يفوتنا في ختام هذا العنصر أن نشير إلى دور المستعمر الفرنسي في تنام الفكر الصهيوني في تونس انطلاقا من مبدأ "فرق تسد" فكان الاستعمار يغذّي الشعور بالاضطهاد لدى اليهود ليضمن عدم تحالفهم مع أيّة مجموعات سياسيّة وطنيّة في المقابل كان يعمّق فكرة ارتداد اليهود في نظر المسلمين و ذلك بمنح أغلبهم الجنسيّة الفرنسيّة.
2/الخطر الصهيوني
من الثبات أن للصحافة اليهودية في تونس دور هام في انتعاشة الصهيونية فمنذ بداية القرن العشرين بدأت تظهر صحافة صهيونية مستقلة استطاعت أن تثبت وجودها من خلال قدرتها على التأثير في الجماهير الشعبية اليهودية كما استطاعت أن تزاحم بقية الصحف اليهودية على اختلاف اتجاهاتها كذلك بعض الصحف الأخرى الموجودة على الساحة وقد بلغت ذروتها في الفترة الممتدة ما بين الحربين ويذكر ''حاييم سعدون '' وهو أستاذ في الجامعة الحرة في اسرئيل في بحث له بعنوان'' تأثير الصهيونية في العلاقات بين اليهود والمسلمين في تونس'' إن الصحافة الممثلة للتيار الصهيوني في تونس كانت تعد على الأقل 36 جريدة من مجموع 150 جريدة ودورية ''وهذا ما يبين سرعة تفاقم الوعي الصهيوني في المدة الوجيزة التي ظهر فيها هذا التيار في تونس.
ورغم أهمية التيار الصهيوني فإننا لا نرى ضرورة للتعريف به لأسباب عديدة أهمها أن الصهيونية مبحث تناولته دراسات عديدة و ما سنقدمه لن يكون إلا تكرارا لما ذكر أما في هذا العنصر سنحصر اهتمامنا في حركة من حركات التيار الصهيوني وهي حركة التنقيحية والتي تمثلها جريدة '' اليقظة اليهودية'' وهي من أهم الصحف الصهيونية في تلك الفترة لذلك فإننا سنذ كر بأصول هذا التيار وظهوره في تونس و كيفية توظيفه للصحافة لخدمة مصالحه.
تعتبر "الصهيونية التنقيحية" حركة يمينية متطرفة تنتمي إلى حزب "زوهار" التنقيحي الذي أسسه الروسي فلاديمير جابوتنسكي سنة 1925 وهي الأكثر الحركات الصهيونية تعصبا في العالم, فهي ترفض اعتماد الحلول السياسية الدبلوماسية لتحقيق الأهداف الصهيونية وتدعو في المقابل إلى اعتماد الحلول العملية لإقامة دولة إسرائيل مثل السعي إلى تهجير أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين بهدف سرعة تهويدها وإسقاط حق الفلسطينيين العرب فيها بالاظافة إلى عسكرة كل الشباب الصهيوني في المستوطنات أما في تونس فقد كانت بداية الحركة التنقيحية في نفس السنة التي تأسس فيها الحزب
وكان" الفراد فالنسي" مؤسس أول منظمة صهيونية بتونس أول من سارع إلى الانضمام إلى الحزب وأصبح عضوا في مجلسه العالمي و لعل شعبية هذا الرجل ساهمت أيضا في سرعة انتشار الحركة ونجاحها في كل المدن التونسية ومن إفرازات المرحلة ظهور جريدة اليقظة اليهودية التي كانت تعبر عن مطالب التنقيحيين وأرائهم وتحرك الجماهير اليهودية في تونس وباقي المستعمرات الفرنسية باتجاه الهدف المنشود ''بناء القومية الصهيونية''
كانت أول المهام الموكولة إلى الجماعة التنقيحيين في تونس والى الصحف التي تمثلهم بالإضافة إلى توسع رقعة الوعي الصهيوني جمع أكبر قدر ممكن من التبرعات للمساهمة في بناء الوطن اليهودي فكانت جريدة اليقظة تتولى مهمة التعريف بالصناديق الصهيونية الخاصة بالتبرعات وحث اليهود بكل طبقاتهم على المساهمة فيها ولعل أهم هذه الصناديق هو الصندوق القومي اليهودي ولعله يجدر بناء أن نقر بأن التيار الصهيوني لاسيما التنقيحي استطاع أن يختصر عمل قرون في بضع سنوات و تجاوز العمل التنظيري إلى العمل التطبيقي المباشر. فكل يهودي في المخطط الصهيوني مجبر على المساهمة من موضعه في بناء الوطن لقد تحولت عملية التبرع لدى الصهاينة إلى عملية تباهي وتفاخر بين المنظمات العالمية وحتى بين الجماعات المحلية ففي مقال صدر بعنوان ''إلى العمل'' حثت جريدة اليقظة اليهود في كل المدن الداخلية على الاقتداء بالجالية اليهودية في سوسة التي استطاعت إن تقدم للنائب العام للصندوق القومي اليهودي سترازبورغ مبلغا قدره 5 ألاف فرنك وهي عائدات حفل نظمته بتاريخ 24 جانفي 1926 لقد اعتبر التيار التنقيحي المسألة اليهودية مسألة قومية بالأساس لذلك كانت الهوية من أهم القضايا التي طرحتها الجريدة و قد أصدرت سلسلة بعنوان ''هل نحن تونسيون'' صدر أول مقال منها 19 من ديسمبر 1924 ونحن نعتبر أن مقالا كهذا على درجة كبيرة من الخطورة لأنه يطعن في هوية اليهود التونسيين بل أكثر من ذلك فهو يضيق عليهم الخناق ويجعلهم في مواجهة مع ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. يقول صاحب المقال ''هل نحن تونسيون ؟'' هذا ما يقال وما تؤكده النصوص وما تكرره السلطات العمومية ولكن اليهود أنفسهم المعنيين بالأمر مازالوا يتساءلون إذا كانوا أولا من رعايا الباي. إن لليهود ألف حق في أن يعتبروا أنفسهم أجانب وأن يحولوا أنظارهم باتجاه فرنسا التي تستطيع على الأقل أن تمنحهم قضاء عادلا وتعطيهم الجنسية على أسس صحيحة''.
لقد قابلت النخب المسلمة بقيادة الزيتونيين وعلى رأسهم الشيخ محمد صالح النيفر الحركات الرامية الى معادات الوحدة الوطنية والقومية والداعية الى التفرقة بين أفراد الأمة الواحدة بكثير من الحذر والصد فبالاضافة الى القضايا الموكولة اليهم مثل مقاومة الاستعمار والفساد في السلطة والفقر والأمية ونشر الدين. كان على الشيخ وجماعته ابداء مواقف صارمة من قضايا لا تقل خطورة مثل تجنيس اليهود والفكر الصهيوني الذي لا يشكل خطرا على البلاد التونسية فحسب بل على الامة العربية.
3/الشيخ محمد صالح النيفر ومشروعه الفكري :
في هذا العنصر لا نرى ضرورة للتعريف بالشيخ اذ سبقتنا في ذلك كريمته الاستاذة أروى النيفر وهي أقدر منا على ذلك إلا انني أستسمحكم قبل الحديث عن مشروعه الفكري في الوقوف عند نقطة هامة وهي نقطة منهجية شكلت عائقا أمامنا أثناء انجاز هذه المداخلة والمتمثلة في ندرة المراجع الخاصة بتاريخ وانجازات الشيخ وهو أمر مستنكر مقارنة بتاريخ الرجل ونظالاته حتى أننا لا نجد أثرا للحديث عن مشروعه الفكري ودوره في الحركة النضالية ضد الاستعمار في كتب التاريخ المعاصر أو كتب التاريخ في المناهج الدراسية والجامعية وهو أمر في –تقديرنا- يدعو الى الفزع لأن التاريخ في نظرنا حدث مكتمل وكل حدث مكتمل حقيقة والحقائق لا تقبل التأويل والتزييف. الا أن كتابة التاريخ في بلادنا خاضعة لمنطق الاقصاء والغربلة وتسليط الأضواء على شخصيات دون أخرى وهو ما يمكن أن نسميه ''بتسييس التاريخ''.
ان الانظمة المتعاقبة على البلاد التونسية بصفة خاصة والبلاد العربية بصفة عامة سعت باستمرار الى تسيس تاريخ الفكر وتقديمه للأجيال اللاحقة في الصورة التي تتماشى معا اديولوجياتها وسياساتها لذلك كان الاقصاء مصير كل مفكر لا يجلس في حضرة السلطان كذلك كانت علاقة الشيخ بالسلطة تلك العلاقة الجدلية السرمدية بين المثقف والسلطان فلا عجب اذ لم نجد ذكرا لمفكر اسلامي مثل الشيخ النيفر بين صفحات تاريخ البلاد التونسية.
إن الكتابة المؤدلجة لتاريخ تونس المعاصر خاصة ما بعد الاستقلال لم تبق إلا على من يتماشى فكرهم مع السياسة العامة للبلاد, فلا أثر لشيوخ زيتونيين في دولة علمانية أو مفكرين قوميين في دولة الوحدة الوطنية (ولكن الخوف, كل الخوف أن لا يكون لهم ذكر أيضا في دولة نظامها إسلامي)
إن عملية طمس الحقائق التي تعرض لها التاريخ الشيخ النيفر النضالي خاصة فيما يتعلق بموقفه من التيار الصهيوني والقضية القومية دليل قاطع على مكانة الرجل وحجم الخطر الذي كان يشكله على السلطة, والسلطة هنا لا تحمل مدلولا واحدا بل هي متعددة فهي سلطة استعمارية الفرنسية التي كانت تخشى تأثيره في الشباب و دعوتهم للوحدة القومية و الوطنية كما كانت تخشى تعامله مع الألمان وتحالفه معهم.
كما تجسدت السلطة أيضا من خلال الاحتلال النازي الذي كان يأمل أن يتحالف الشيخ فعلا معه ويسانده في تعبئة الشباب ضد المحورو في حرب الإبادة التي كان يشنها على اليهود والتي رفضها الشيخ.
كما تجسدت السلطة أيضا في الحزب الدستوري التونسي الذي كان يخشى شعبية الشيخ النيفر وجمعية الشبان المسلمين التي فاقت في أحيان كثيرة شعبية الحزب نظرا لأن الوازع الديني كان أقدر على تعبئة الشباب من الوازع الوطني.
إذن كانت السلطة متعددة وأهدافها متباينة لكن المشروع الفكري للشيخ النيفر ثابت وقار وهو نصرة فلسطين والتصدي للصهيونية من خلال الوحدة القومية أولا والوحدة الوطنية ثانية ومقاومة كل أشكال الانشقاق والتفرقة بين أفراد الأمة الواحدة بما فيهم الأقلية اليهودية.
ومن المهم جدا أن نبين أن الشيخ النيفر رغم معاداته الشرسة للصهيونية التي أطلق عليها اسم" الطفل المدلل" فانه كان يفصل تماما بين المسألة الصهيونية والمسألة اليهودية وهذا ما يتجلى من خلال كتاباته إذ كان كثير التعاطف مع اليهود التونسيين ويعتبر مسألة انتمائهم إلى الوطن من المسلمات حتى أنه رفض التعامل مع الألمان على خلاف غيره من النخبة التونسية إذ كان يدرك أن سياسته إجرامية وعنصرية إذ يقول الشيخ: ''والواقع أن الألمان ظلموا اليهود أعرف تلك الدار التي دخلنا فيها كانت فخمة فيها أثاث بلور لليهود ألقوا به في الشارع وسكنوها''
كما كان من النخبويين المسلمين القلائل الذين رفضوا إقصاء المجموعة اليهودية من جمهورية ما بعد الاستقلال.وعلى عكس غيره من الزيتونيين الذين اتهموا المجموعة اليهودية بالخيانة على اعتبار أن لها صلة بالقوى الاستعمارية أبى الشيخ إلا أن يكونوا جزءا من الوحدة الوطنية ويذكر في كتابه أن بورقيبة قد سأله قبيل الاستقلال '' عندما نأخذ الحكم ماذا سنفعل مع اليهود والنصارى'' فقلت ''لهم ما لنا وعليهم ما علينا ''
لقد كان الشيخ مدركا تماما أن العمالة مع الاستعمار لم تكن حكرا على اليهود بل أيضا على بعض المسلمين من أصحاب النفوس الضعيفة والدليل على ذلك أن قضية التجنيس التي كان للشيخ فيها موقفا صارما وجريئا لم تكن حكرا على اليهود فحسب بل سارع إلى اعتناقها عدد كبير من المسلمين.
إلا أن الشيخ كان واضحا في موقفه من الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين ويعتبر أن الخطر الصهيوني سواء كان على الصعيد الداخلي أو على الصعيد العربي لا يخرج عن إطار الحرب القديمة التي يشنها الغرب على الشرق وأن الكيان الصهيوني ليس إلا ذلك العنصر المريض الذي زرع في الجسد العربي ليبقيه عليلا إذ يقول ''فماذا يسمى بربكم هذا المعلن عنه الذي يقدر الإعلام العالمي أن يخفي واقعه من تشنيع وتدبير وعمل وما تقوم به اليهودية في فلسطين, ومن حرب النصارى وإخوانهم الأمريكان أليس ذلك يمثل ويجسد ويجهر ويحمل رايات الصلبان". لقد رأى الشيخ في الحركة الصهيونية في أهدافها وغاياتها امتداد للحروب الصليبية التي عرفها العرب في السابق إذ يقول''بني قومي وإخواني أعلنها سافرة, حقيقية مفضوحة, فاضحة فلسنا نقدر أن نقول أن الحروب الصليبية ماتت في غضون أحقاب ماضية هذا هراء, وقلب للواقع بين الورى بل هي حية ترزق قوية في عنفوانها, عظيمة أركانها"
لذلك جند الشيخ نفسه وإخوانه ممن امنوا بمشروعه الفكري على امتداد مسيرته النضالية للتصدي للخطر الصهيوني وكان التصدي كما اشرنا على صعيدين صعيد عملي وصعيد نظري
صعيد نظري متجسد في النقاط التالية
-التعريف بالخطر الصهيوني وفضح أهدافه وغاياته والأطراف التي تدعمه من خلال كتاباته في الساحة المحلية والعربية. - تنمية الوعي السياسي لدى الشباب وتعبئته لمجابهة أي شكل من الأشكال العنصرية والاستعمارية سواء كان الاستعمار الفرنسي والكيان الصهيوني
-التركيز على مفهوم الوحدة والعمل الجماعي وهو صلب المشروع الفكري للشيخ النيفر.
أما على الصعيد العملي فقد تمكن الشيخ خاصة من خلال جمعية الشبان المسلمين أن يغلب العمل على القول فكانت انجازاته تفوق مقالاته إذ اتخذ جملة الإجراءات الهامة في مجابهة الخطر الصهيوني من ذلك تجنيد الشباب المسلم الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و 25 سنة للتطوع 1 للمقاومة المسلحة ضد الكيان الصهيوني.
- إصدار فتاوى تحرّم التجنيس للمسلمين و تجرّم تجنيس اليهود باعتبارهم جزءا من الوحدة الوطنيّة.
- جمع التبرعات لفائدة المقاومة العربيّة من خلال بيع قصاصات عنوانها إلى نصرة فلسطين.
ورغم أهمية هذه الخطوات إلا أنّها كانت محاطة بقبضة أمنيّة مشدّدة تحدّ من فاعليّتها فكان الاحتلال الفرنسي يناصر الصهيونيّة و يتصدّى لمن يهاجمها.
من ناحية أخرى كان للحزب الحرّ الدستوري التونسي يترصّد خطوات الشيخ و يحاصرها مدّعين في ذلك خوف من تقدّم القضيّة الفلسطينيّة على حساب القضيّة الوطنيّة.
الخاتمة
قام الخطاب الفكري للشيخ محمّد صالح النيفر على مقاومة المشروع الصهيوني و سعى إلى الكشف عن طبيعته الاستعمارية و العنصرية و سعى من خلال نشاط في جمعيّة الشبان المسلمين ثم من خلال ترأسه للمجلة تعبئة الجماهير وخاصّة الشباب لمواجهة نشاطات الحركة الصهيونيّة داخل و خارج البلاد التونسيّة و قد تعددت مظاهر دعم الشيخ و جماعته للقضيّة الفلسطينيّة منذ بداية الثلاثينات و لم يتعارض تبنيه لهذه القضيّة مع القضيّة الوطنيّة و مجابهة الاستعمار الفرنسي إذ كان يعتبرهما وجهان لعملة واحدة.
وفي الختام حاولنا من خلال تحليل هذه العناصر أن نتعرّف على حركة فكريّة اجتماعيّة و سياسيّة كانت تتغلغل و تتبلور في صلب المجتمع التونسي. حركة مختلفة في الفكر في الأسلوب و في الغايات عن المسار العام لباقي المجتمع التونسي
تجسدت من خلال الصحافة اليهودية في تونس
كما حاولنا الكشف عن شبكة العلاقات الخارجيّة المتمثلة في علاقات المجموعات اليهوديّة في تونس بالقوى الاستعماريّة ثم بالكيان الصهيوني و ببعض الأحزاب الصهيونيّة العالميّة أو بعض المنظمات اليهوديّة مثل الرابطة الإسرائيلية العالميّة أمّا شبكة العلاقات الدّاخليّة فهي تطرح جملة من العلاقات بين اليهود و السلطة و بين اليهود و المسلمين في بعديها البسيط و النخبوي.
كما سعينا إلى قراءة صورة الأخر، الأخر المختلف في الفكر و الدّين و العرق في المشروع الفكري و التربوي للشيخ محمّد صالح النيفر الذي فصل فيه كلّيا بين المسألة الصهيونية و بين علاقة المسلمين باليهود في تونس و ذلك من خلال ترسيخ مفهوم التسامح الديني و التركيز على مفهوم الوحدة الوطنيّة.