ملتقى الإمام الخميني والشيخ محمد صالح النيفر
آخر جمعة من شهر رمضان المبارك 1433
تونس العاصمة
حضور القضية الفلسطينية في ضمير الشعب الإيراني
أ.د. محمد علي آذرشب
أستاذ في جامعة طهران
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن
والاه.
اتقدم أولاً بالشكر للجامعة الدولية بتونس على دعوتهم الكريمة. وأهنئ القائمين
على أمر هذا الملتقى لاختيارهم عنواناً يرتبط بصميم واقع أمتنا وطموحاتها المستقبلية، إذ جمع في عنوانه مفردات تشكل منظومة الوعي الحضاري لهذه الأمة وهي: القدس ــ الإمام الخميني ـــ الشيخ محمد
صالح النيفر.
هذه المفردات تجمع بين قضية حساسة هي اغتصاب المقدس، بكل ما يحمله هذا الاغتصاب
من إيقاظ للأمة على واقعها المتردي، ودفع نحو تجاوز حالة الهزيمة والذلّ.
وبين شخصيتين في شرق العالم الإسلامي وغربه تلتقيان حول مشروع استنهاض واحد
يستعيد عزّة المسلمين وكرامتهم.
وبمناسبة انعقاد الملتقى في يوم القدس فإني سأقتصر في حديثي على حضور هذه
القضية والقضية الفلسطينية عامة في ضمير الشعب الإيراني، وقدرة هذه القضية على تعبئة الأمة نحو رسم مستقبلها الموعود.
مقدمة:
في الأيام الأولى لانتصار الثورة الإسلامية في إيران ظهر في الشارع الإيراني
حماس غير عادي لقضية فلسطين، فالجماهير توجّهت بشكل عفوي إلى مبنى الملحقية التجارية (السفارة) الإسرائيلية في طهران، ورفعت فوقها العلم الفلسطيني مؤذنة بشكل أقرب إلى العفوي عن افتتاح أول سفارة
لمنظمة التحرير الفلسطنية في العالم. ثم رفعت في مسيراتها وتجمعاتها شعار «اليوم إيران وغداً فلسطين» وغدت الشعارات على الجدران وعلى اللافتات بشأن فلسطين تنافس نظيراتها بشأن الثورة
الإسلامية.
وحين زار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية طهران خلال تلك الأيام استقبل استقبالا
جماهيريا عفويا قل له نظير، وأصبحت كوفيته رمزاً يفتخر بارتدائها الشباب، وتدفق الفلسطينيون على طهران وغيرها من مدن إيران، واستقروا في بيوت جلاوزة الشاه الفارين من إيران، كما تدفق من إيران
المتطوعون والمتطوعات بشكل غير مدروس وغير منتظم على مخيمات الفلسطينيين في لبنان للتدريب وحمل السلاح.
فما هي الخلفية التي حركت الجماهير الإيرانية بهذا الاتجاه؟ ولماذا حافظت هذه
الظاهرة إلى حد كبير على حيويتها حتى يومنا هذا رغم ما واجهها من ألوان التهديد؟
«القومي» و«الرسالي» في التاريخ
الروح القومية فطرية في أي شعب أو قبيلة أو مجموعة بشرية، فهي مظهر من
مظاهر التيموس الأفلاطوني الذي يحرك الجماعة لكسب اعتراف الآخرين بها( ، وبعبارة أخرى هو مظهر من مظاهر العزّة التي يسعى إليها الفرد والجماعة فطرياً .
والروح القومية في إيران تسندها حضارة فارسية عريقة كانت لها مكانتها الكبرى
على الساحة العالمية، حتى ظهر الإسلام فقدم المشروع الرسالي لعزّة الإنسان، ففتح إيران بهذا المشروع، وكان من عظمته أنه وقف من الظاهرة القومية موقفاً لم يجعل الإيراني يحسّ بأية حالة من الإذلال
القومي. ولذلك سخّر كلّ رصيده الحضاري لخدمة الدين الجديد.
ولكنَّ الإيرانيين رأوا من بعض الولاة في عصر الخلافة الراشدة أو من بعض
القبائل العربية المهاجرة نوعاً من الاستعلاء القومي، فتململوا، ولكنّ الإمام علي(ع) في عصر خلافته أنقذ الموقف ونقل مقرّ خلافته إلى الكوفة ليكون قريباً من الإيرانيين، وليقدّم تجربة إسلامية رائعة
ألغت مرة أخرى كل الامتيازات القومية والقبلية، وأعادت معيار التقوى بقوّة، وفرضت عدالة صارمة في التعامل الاجتماعي والقضائي والاقتصادي وبذلك تفاعل الإيرانيون مع هذه التجربة، وترسّخت معالمها في
أذهانهم، وجعلتهم ينشدونها حين ادلهمّت الخطوب في العصر الأموي وسادت العصبيات القومية والقبلية، مما ادّى إلى تحرك إيراني تحت راية الرضا من آل محمد لاستئصال شأفة الأمويين.
غير أن الآمال خابت في إقامة الحكومة العلوية، وعمد العباسيون إلى ممارسة ألوان
الغدر من أجل تثبيت حكومتهم، من ذلك الغدر بالقادة الإيرانيين الذين وطّدوا لهم الحكم، وكادت الخيبة تسري إلى الرسالة الإسلامية نفسها، لولا موقف الدعاة من آل البيت الذين أعادوا إلى الأذهان
المشروع العلوي في الحكم. وبين عوامل الخيبة والأمل ظهرت في إيران حركات قيل إن بعضها أعلن تخلّيه عن المشروع الرسالي ولجوئه إلى العامل القومي، مثل حركة به آفريد، وسنباد، واسحاق ترك، والراوندية،
والأستاذ سيس، والمقنّع، غير أن الغالبية العظمى من الجماهير الإيرانية كانت منحازة
إلى المشروع الإسلامي، وهي التي قضت على هذه الحركات القومية.
وظلّ الإيرانيون منحازين إلى المشروع الإسلامي يقدّمون كل ما عندهم من رصيد
حضاري لنموّ دوحة الحضارة الإسلامية، ورفضوا أية نزعة استعلائية قومية داعين إلى المساواة بين العرب والعجم، وأيدهم في ذلك الرساليون من العرب والجماهير العربية المتدينة، كما تجلّى شوقهم إلى
النموذج العلوي في انضوائهم إلى الحركات التي ترفع راية العدالة العلوية، حتى أصبح للإيرانيين حكوماتهم المستقلة، لاعن العرب والإسلام، بل عن سلطة الخلافة العباسية التي فقدت قدسيتها في
أنظارهم.
وبقي الإيرانيون في ظل الحكومات الإيرانية المتعاقبة والمتزامنة مثل الدولة
السامانية والزيارية والعلوية والبويهية وحتى الصفوية والقاجارية يجعلون الروح القومية الإيرانية في خدمة المشروع الإسلامي للحياة، ولا يرون أي انفصال بين القومية الإيرانية والإسلام، ولا بين
الإيرانيين والعرب.
أردت بهذا العرض التاريخي أن أخلص إلى مايلي:
1ـ نجح الإسلام في إيران أن يسخّر القومية الإيرانية لخدمة المشروع الإسلامي،
دون أن يلغي الخصوصيات القومية للإيرانيين مما لا يتعارض مع الدين.
2- نجح آل بيت الرسول الله(ص) في إنقاذ الموقف، متى ما تعرّض الإيرانيون إلى
حالة الإذلال والاستعلاء القومي، ولذلك ترسخت الروح الإسلامية في إيران على مرّ العصور، ولم تتكرر فيها تجربة الأندلس.
3- إن ارتباط إيران بالعرب يقوم على أرضية رسالية، ويقوى هذا الارتباط ويضعف
بمقدار قوة المشروع الإسلامي وضعفه في إيران.
4- إن التمازج الحضاري بين إيران والإسلام والمساهمة الإيرانية الواسعة في
الحضارة الإسلامية وفي جميع العلوم المرتبطة بهذه الحضارة بما في ذلك علوم اللغة العربية جعل الإسلام ديناً وحضارة ولغة جزءاً من الهوية القومية للفرد الإيراني.
«القومي» و«الرسالي» في العصر الحديث
منذ القرن السابع عشر تراكمت في العالم الإسلامي كل عوامل الضعف والانهيار.
ولذلك كان من السهل جداً على القوى الفتية الأوربية أن تدخل من خلال الثغرات الهائلة التي انفحت في جسد الأمة الإسلامية.
فقد دخلت سياسياً وعسكرياً واقتصادياً للإطاحة بثلاث دول هي آخر ما بقي من
الدول الإسلامية الكبرى وهي الصفوية والعثمانية والمغولية في الهند.
وفي إطار موضوعنا، كان لحالة التخلف، والتدخل الأجنبي كبير الأُثر في إضرام نار
الخلافات الصفوية والعثمانية. وكان للحرب بينهما كبير الأثر في إذكاء الصراع القومي والطائفي بين المسلمين. ولانزال حتى اليوم نعاني من آثار هذا الصراع.
وبعد هذا السقوط تحول العالم الإسلامي إلى محميّات يحكمها المندوب السامي تارة
والسفارات الأجنبية تارة أخرى.
وكانت إيران تحكمها السفارات الأجنبية مع بقاء الشاه. ومع اختلاف المصالح بين
تلك السفارات فإنها اتفقت على فصل ايران عن مجموعة الحضارة الإسلامية، واشتملت خطة الفصل على الصعيد الشعبي والنخب باختصار على ما يلي:
1ـ التركيز على المحور الطائفي لفصل إيران بأكثريتها الشيعية عن العرب
بأكثريتهم السنية.
2- إثارة النعرات القومية الإيرانية ضد العرب باعتبارهم قوماً أبادوا الحضارة
الفارسية القديمة وتعاملوا باستعلاء مع الإيرانيين.
3- ما تعيشه إيران من تخلف إنّما هومن الدين العربي، ولابدّ لكي تتطور أن تتخلص
من تقاليد هذا الدين ومن اللغة العربية والحرف العربي.
4- قطع الصلة بين الإيرانيين والتاريخ الثوري الإسلامي وعلى رأسه ثورة
الحسين(ع)، عن طريق الاستهانة بمجلس العزاء الحسيني والسخرية من الحزن على الحسين.
5- ضرورة تقليد الغرب في كل فعله لتحقيق نهضته، وعلى رأس ذلك فصل الدين عن
السياسة، وحصر مسؤولية علماء الدين في المساجد لأداء الطقوس والعبادات.
6- إثارة حالة من الحقد والكراهية لعلماء الدين.
7- إثارة البلبلة في العقائد الدينية عن طريق افتعال مذاهب منحرفة.
أما على الصعيد الرسمي فقد تكرست التجزئة عبر ربط مصالح الحكم بدوائر الاستعمار
الغربي، وإحاطة الجهاز الحاكم بالأرستقراطية الجاسوسية مثل البهائيين
والماسونيين والصهاينة من أبناء الجالية اليهودية.
لقد نجحت الخطة تماماً علىالصعيد الرسمي أما على الصعيد الثقافي فقد استطاعت أن
توجد تيارات من النخب المثقفة لا تؤمن بدور الدين في الحياة، وكان لإهمال الدور الديني والاستهانة به الدور الكبير في إخفاق مساعي هذه النخب في النهضة والإصلاح وفي إخفاق الحركة الوطنية التي
استهدفت تأميم النفط، فقد أدّى تعارض الاتجاه العلماني والاتجاه الديني إلى انهزام حركة شعبية أوشكت أن تحرر إيران في الخمسينيات.
بعد هزيمة تلك الحركة الوطنية دخلت الولايات المتحدة بقوة في إيران لتسيطر على
كلّ المرافق الحيوية في البلاد، وبدأت منذ ذلك الحين عملية مكثفة لفصل إيران عن العالم العربي باستخدام الوسائل القديمة نفسها مع توسيع نطاق الدراسات الإيرانية القومية الرافضة للإسلام في الجامعات،
وإسقاطها على مناهج الكتب الدراسية، وإشاعة روح التحلل والفساد بين الشباب، وتقوية الجهاز
البهائي المرتبط بأمريكا والصهيونية، وتحويل إيران على الصعيد الأمني والعسكري إلى دركي في المنطقة، ورافق ذلك ظاهرتان هامتان في العالم العربي هما: إقامة دولة الصهاينة في فلسطين، وظهور طيف في
التيار القومي العربي معاد لإيران.
وسواء نظرنا إلى إقامة الدولة الصهيونية في سياق صراع حضاري أوفي إطار صراع
المصالح فإن الذي لا خلاف فيه أنها خُلقت ضمن مشروع إنهاء ظاهرة الأمة الإسلامية التي تستشعر اشتراكاً في المصالح، وتحويلها إلى مجموعة من البلدان ذات توجهات ومصالح متباينة، مع خلق بؤر للأزمات
ليتحول التباين إلى صراع متى ما اقتضت مصالح الهيمنة الدولية.
وضمن هذا المشروع تؤدي إسرائيل دوراً هاماً في تكريس التشتيت وصراع المصالح،
كما أنها مرشحة دائماً لمواجهة أي وجود داخل العالم الإسلامي يسعى إلى استعادة الرابطة الإسلامية بين شعوبه لا بالطريق العسكري فحسب، بل أيضاً باستخدام شتى أنواع الأسلحة التي مارستها الصهيونية في
العالم كالإعلام والجنس والمال والتجسس.
أما بشأن ظهور اتجاه بين الاتجاهات القومية العربية يحمل عداءاً لإيران في
العالم العربي، فلابدّ من التوضيح أن هذا العداء لو اتجه إلى نظام الشاه فقط لكان طبيعياً، بحكم وقوف الشاه ضد مصالح العرب في دعمه للصهاينة ودولتهم وللسياسة الأمريكية في المنطقة، لكن العداء كان
موجهاً إلى كل إيران تاريخاً وشعباً ومذهباً، فكتُب التاريخ وتاريخ الأدب والكتب الدراسية في بعض البلدان العربية امتلأت منذ الستينيات بشكل خاص بالحديث عن إيران بأنها كانت على مرّ التاريخ
الإسلامي مصدراً للحركات الهدامة المعادية للعرب ومصدراً للزندقة والإلحاد والمجون، وعن الخطر الفارسي المتواصل ضد العرب، ورسمت خرائط إيران بصورة تدعو إلى تجزئة إيران.
مما تقدم يلاحظ أن كلّ عوامل عزل إيران عن العرب وعن القضايا العربية قد توفّرت
في الخمسينيات والستينيات: عامل التغرب، وعامل تكريس الروح القومية في الداخل، وعامل الهيمنة الخارجية، وعامل الطيف المتعصّب ضد إيران في الخارج.
«القومي» و«الرسالي» في حركة الإمام الخميني
بدأ الإمام خطابه بالحديث عمّا يهدّد مصالح إيران القومية من قبل أمريكا
والصهيونية، ودعا الشاه إلى التحرر من نير الإرادة الأجنبية والحفاظ على عزّة إيران وكرامتها. وهذا الخطاب حين يصدر من مرجع ديني فإنه يعني تسخير المشاعر القومية والوطنية في صالح المشروع
الديني.
وبمرور الأيام دخل الإمام الراحل في مواجهة مباشرة هائلة سخّر فيها كل عواطف
الجماهير أمام مثلث الشاه أمريكا إسرائيل.
وكانت عظمة هذا الخطاب تتجلّى في قدرته على دفع القوى القومية العلمانية
الإيرانية إلى الانزواء بعد أن تحولت نهضته إلى بركان للدفاع عن المصالح القومية لإيران تحت راية الإسلام. كما دفع اليسار إلى الانزواء بعد أن أصبح في طليعة الثوار المعادين للامبريالية الأمريكية
في العالم.
كما أن تأكيده المستمر على القضية الفلسطينية وكأنها جزء من قضية إيران، وعلى
الخطر الصهيوني وكأنه خطر يحدق بإيران قبل أن يهدد العالم العربي، جعل الصراع بين جبهتين: الإسلامية التي تتحقق في ظلها عزّة إيران وكرامتها، وجبهة أمريكا والصهيونية التي تستهدف إذلال المسلمين
والسيطرة على مقدراتهم وإهدار كراماتهم.
والواقع أن القضية الفلسطينية خدمت مشروع الإمام الخميني بقدر ما خدمها، فهي
كانت مركز الثقل الذي يستند إليه الإمام في إحياء مشروعه الإسلامي الداعي إلى وحدة الأمة الإسلامية ووحدة قضاياها، وضرورة الوقوف صفاً واحداً تجاه ما يواجهها من أخطار وتحديات. كما أنها أيضاً خدمت
بشكل كبير مشروعه في مواجهة الفصل بين «القومي» و«الإسلامي» وجعلت قضية الإيرانيين والعرب واحدة هو التحدي الصهيوني.
من هنا نفهم سبب مواقف الشارع الإيراني من القضية الفلسطينية بعد انتصار الثورة
الإسلامية، ومن هنا نفهم أيضاً سبب الحساسية البالغة التي أبداها
الشارع الإيراني تجاه أمريكا.
فالشارع الإيراني شُحن فكرياً ونفسياً بضرورة مواجهة مثلث الشاه والصهيونية
وأمريكا، وهذا الشحن تواصل بعد سقوط الشاه، واليوم نستطيع أن نفهم أكثر من أي وقت مضى سبب مواصلة الإمام لهذا الشحن، وسبب تحذيره المستمر من التنازل أمام التهديدات الأمريكية
الصهيونية.
وهنا نشير إلى أن ارتباط مثلث الشاه – الصهيونية – أمريكا اتضح للإيرانيين
بالوثائق بعد الثورة حين جمع الشباب الإيراني ما حصلوا على جذاذاته في السفارة الأمريكية ونشروه في مجلدات خاصة بعنوان: «محتلو القدس» و«أمريكا حامية محتلي القدس» و«فلسطين – 1» و«فلسطين –
2».
وحين يمتزج القومي مع الإسلامي في حركة مستقبلية يدخل كل الموروث الثقافي
ليشكّل حوافز هذه الحركة ورموزها ومن أهم هذه الحوافز والرموز لدى الإيراني:
الدفاع عن المقدسات
القدس حاضرة في كل أدبيات الثورة الإسلامية بشأن فلسطين وفي فنونها وإعلامها.
فبيت المقدس والأقصى يرمزان إلى المقدس في القضية الفلسطينية، والمقدس بما له من بعد غيبي لامتناه يشدّ الفرد والجماعة البشرية نحوه إيمانياً، ويزوّد المسيرة بعطاء متواصل، ويدفع إلى التضحية من أجل
الحفاظ عليه.
حتى النظم الوضعية تحتاج إلى قدسية تجسّدها في العَلَم وفي الدستور وفي تراب
الوطن من أجل شدّ الجماهير بالنظام.
والمقدس في القضية الفلسطينية يستوعب كل ذرة من تراب هذا الوطن الإسلامي، لكنه
يضمّ أيضاً رموزاً تشكل عامل شد وتحريك لكل المسلمين، إلى جانب ما فيها من رموز مقدسة يشترك فيها المسيحيون والمسلمون.
والمقدس يمكن أن يكون وسيلة لقياس مافي الأمة من حياة ويستطيع العدوّ من خلاله
أن يجسّ النبض ويعرف مستوى الحيوية. من هنا فإن احتلال الصهاينة للقدس وتدنيسها بأقدام القتلة كان يستهدف الإعلان عن انتهاء هذه الأمة.
لكن ردود الفعل المناسبة وخاصة انتفاضة الأقصى بدّدت آماله، ولهذا رأى الشارع
الإيراني في انتفاضة الأقصى أنها إعلان عن وجوده هو، ودفاع عن كرامته هو، وهذا التفاعل مع الانتفاضة في إطار الدفاع عن المقدس من أهم رموز حضور القضية الفلسطينية في الشارع
الإيراني.
في مسابقة «طريق القدس» التي أجراها مركز الدراسات الفلسطينية ولجنة الدفاع عن
الثورة الإسلامية الفلسطينية بطهران في موضوع رسوم الأطفال تقدم 13422 متسابقاً من تلاميذ الابتدائية والتوجيهية والثانوية الإيرانيين، وقدّموا لوحات رسوم ترتبط بانتفاضة الشعب الفلسطيني، وقلّما
نجد لوحة تخلو من صورة بيت المقدس ببنائه المضلع وقبته، مما يدلّ على عمق المقدس الفلسطيني في وجدان الشارع الإيراني.
كما أن رسوم الفنانين الإيرانيين والأناشيد الفلسطينية الإيرانية قلّما تخلو من
القدس وبيت المقدس وقبة الصخرة والأقصى، وكلنا نتذكر عمليات «طريق القدس» في ردّ العدوان على الجمهورية الإسلامية وما حققته باسم هذا المقدس من انتصار. وهكذا انشداد الإيرانيين بمسلسل «طريق القدس»
يحكي عن التعاطف النفسي مع الأمير العربي الحمداني في الدفاع عن المقدسات، ووجود «ساحة القدس» و«شارع القدس» إلى جانب «ساحة فلسطين» و«شارع فلسطين» في طهران والمدن الإيرانية الأخرى، تنمّ عن رموز
القدسية في قضية فلسطين لدى المجتمع الإيراني.
مظلومية الشعب الفلسطيني
أظنّ أن أدبيات الثورة الاسلامية ووسائل إعلامها تنفرد في إطلاق صفة
«المظلومية» على الشعب الفلسطيني والانتفاضة الفلسطينية، فهذه الصفة قد تكون سلبية في كثيرمن الأذهان، لكن الذهنية الإيرانية الإسلامية يتداعى لها «مظلومية» كل أصحاب الحقّ في التاريخ، وخاصة في
التاريخ الثوري الإسلامي وفي قمته تاريخ واقعة كربلاء. والمظلوم وفق هذه الذهنية ليس المقهور والمهزوم، بل هو طالب الحق الذي قل عدده وعدّته، لكنه يأبى الذلّ ويرضى أن يتعرّض لألوان الظلم دون أن
يتنازل عن حقّه.
يظهر من العمق النفسي الإيراني أنه تعرض على مرّ التاريخ القديم لألوان الظلم
من السلالات الحاكمة التي كانت تسخّر الشعب لأهوائها وفتوحاتها، ولعلّ هذا هو العامل الذي جعل الإيرانيين يحتضنون بضعة آلاف من المسلمين في الفتح الإسلامي ويساعدونهم على تسخير إيران رغم كل ما كان
لكسرى من قدرة عسكرية تنافس قدرة الروم. ولعلّ هذا أيضاً هو العامل الذي حال دون أن يستطيع المسلمون فتح بلاد الديلم في القرن الأول والثاني، لأن الديلم كانوا لا يفرقون بين هؤلاء الفاتحين الجدد
وبين المقاتلين من أجل الهيمنة والنفوذ، لذلك ظلوا على دينهم حتى جاءهم «المظلومون» من العلويين الفارين من السلطة العباسية، فاحتضنونهم، ودانوا بدينهم ومذهبهم ، ثم انتصروا لهم بعدأن أسسوا الدولة
البويهية في إيران والعراق.
الإمام الخميني انطلق من هذه الخلفية النفسية للإيرانيين حين استثارهم في مسألة
«الفيضية». فقد أضرم النار في الشارع الإيراني حين تحدث بصوت باك عن مظلومية طلبة المدرسةالفيضية.. كما أنّ صورة «المظلومية» التي أحيط بها بعد أن أجبر على مغادرة النجف، فظلّ حائراً حتى ألقته
المصادفات في باريس، هذه الصورة كانت المسمار الأخير الذي دقّ نعش الشاه وأقامت إيران ولم تقعدها إلاّ بعودة الإمام من منفاه إلى أرض الوطن.
وحين تصاعد التآمر الداخلي في بداية الثورة ضد الخط الإسلامي الملتزم ومن رموز
هذا الخط الشهيد الدكتور بهشتي، تحدّث الإمام في اليوم التالي لانفجار الحزب الجمهوري الإسلامي بلغة قلبت المعادلة تماماً لصالح الخط الإسلامي. وما كانت هذه اللغة سوى «مظلومية» الشهيد
بهشتي.
والمظلوم بسبب هذه الخلفية النفسية التاريخية محبّب إلى نفوس الإيرانيين، وإن
كان محبباً لدى كل الذين يقفون في صفّ المظلومين لمقارعة الظالمين، لكنه لدى الإيرانيين يرتبط أيضاً بكل من يقدسونهم في التاريخ من أمثال علي وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأبي ذر وياسر وسميّة
وعمّار وغيرهم من الصحابة والتابعين.
الرسوم والأفلام والمسلسلات الإيرانية حول فلسطين تحكي عن شعب وادع هادئ يتعرّض
للإرهاب والوحشية، وتتحدث عن مقتل الأطفال والنساء والشيوخ. وتتحدث عن أرض سليبة وعوائل مهجّرة ومخيمات مبثوثة، وعن مجازر تعرّض لها المشردون في المخيمات، وكلها تلتقي مع الوجدان الإيراني المتعاطف
مع المظلوم، وتبقي القضية حيّة في النفوس وفي يوميات الإنسان الإيراني.
حتمية انتصار المستضعفين
هذه سنة قررها القرآن الكريم، لكنها في الوجدان الشعبي الإيراني عميقة الجذور،
ترتبط بما واجهه على مرّ التاريخ من مرارة لم ينهزم أمامها لإيمانه بأن «بايان شب سيه سفيدي است» = نهاية الليل القاتم الصباح الأبلج. وهذا الإيمان المتجذّر التقى مع فكرة المهدي المنتظر عليه السلام، فأصبحت قضية المهدي تعيش جنباً إلى جنب مع قضية
كربلاء في وجدان الإنسان الإيراني.
مرّت على الإيرانيين طوال التاريخ ظروف ترغم كل شعب على اليأس والقنوط
والاستسلام، لكنه التفّ على هذه الظروف وحوّلها لصالحه. وفي العصر الحديث مرّ بتجارب كثيرة رسخت هذا الإيمان في أعماقه. من ذلك الانتصار الإسلامي الذي تحقق في أرض الهيمنة الإمريكية والصهيونية، ومن
ذلك نجاح المقاومة في صدّ حرب عالمية ضد إيران استمرت ثماني سنوات. ومن ذلك نجاح التصدي للمقاطعة الاقتصادية والإرهاب والمحاصرة السياسية.
من هنا لا يمكن أن تسود في الشارع الإيراني يوماً فكرة انتهاء القضية
الفلسطينية حتى في أحلك ظروف استسلام القيادات أو البطش الصهيوني، بل يرى أن نهاية النصر قد اقتربت كلما ادلهمت الخطوب وتفاقمت الأوضاع.
وعبارة: )وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً ( (الاسراء:81) تحتل مساحة واسعة في الأدبيات والإعلام والشعار وفي رسوم الأطفال، معبرةً عن حتمية انتصار الحق على الباطل. ومن المسلمات التي لا ترديد
فيها أن الشعب الفلسطيني قد حرم من حقّه في أرضه وفي عودته ومن سائر حقوقه بوطنه. ولا يمكن أن يفرض الواقع نفسه مهما طال الزمن في تغييب فكرة «الحق» لدى الإنسان الإيراني، فالحق مقدس عنده، الحق هو
الله في الأدب الفارسي وفي الخطاب اليومي الإيراني، والحق ارتبط بشخصية علي في مواجهة الباطل، لذلك فإن عبارة «حق با علي» = الحق مع علي، من التعبير الشائع في الشارع الإيراني، وقد يكون مستلهماً من
الحديث الشريف: «علي مع الحق والحق مع علي».
فالحق مقدّس والمدافعون عن الحق منتصرون لا محالة، مهما قلّ الناصر، وعبارة:
«الدم منتصر على السيف» = «خون بر شمشير بيروز است» جاءت من الإمام لتنسجم مع نبض الشارع الإيراني، فتحولت إلى شعار للثورة، ثم إلىشعار للقضية الفلسطينية. ثم إن ثورة الحجارة تندرج في سياق القدرة
الفائقة للحجر على ردّ كيد المعتدين، وعلى مفعولـه المعجز في الانتصار على الدبابة كما يُرى في رسوم الإيرانيين ومسرحياتهم عن الانتفاضة.
والفجر الذي يظهر في كثير من الأعمال الفنية الإيرانية بشأن فلسطين، والحصان
الأبيض الذي يُرى في بعضها الآخر يدلّ على الأمل في المستقبل وحتمية انتصار الحقّ في النهاية.
عالمية الخطر الصهيوني الأمريكي
النظرة الشعبية لإسرائيل أنها جزء من ظاهرة عالمية تريد أن تسيطر على مقدرات
العالم، وهذه النظرة تنطلق من معاناة الإيرانيين من الصهيونية في زمن الشاه، وسيطرة الصهاينة وأمريكا على مقدّرات إيران. من هنا فإن الخلاف مع الصهاينة ليس على هذا الجزء أو ذاك الجزء من أرض فلسطين
ولا أيضاً على أرض فلسطين بأجمعها، بل الخلاف على المخطط الصهيوني للاستعلاء على كل العالم وجرّ البشرية إلى حالة من الانحدار بحيث يمكن السيطرة عليها.
ولهذا فإن الشارع الإيراني رفض كلّ ما يسمى بمحادثات السلام جملة وتفصيلاً،
وخطابه هو الخطاب الوحيد الذي يعلن أن حلّ مسألة فلسطين يكمن فقط بتحريرها من براثن الصهيونية.
ولذلك لا تجد الفئة التي تعتقد بانفصال القضية الفلسطينية عن المصالح الوطنية
الإيرانية، أو التي تدعو إلى موقف إيراني يبعد عن إيران خطر هجوم إسرائيلي صدى في الشارع الإيراني، بسبب هذا الفهم لطبيعة الصهيونية.
والملفت للنظر في موقف الشارع الإيراني من أمريكا أنه ينفرد في المجموعة
الإسلامية بعدم انجراف فئاته الإسلامية منذ الخمسينيات مع المشروع الأمريكي الذي استهدف تعبئة المشاعر الدينية لمواجهة الخطر الشيوعي. كل الفصائل الإسلامية في إيران كانت ترفض ما يسمى بالإسلام
الأمريكي الذي لا يقبل إلاّ إسلاماً يكافح الشيوعية دون أن يصطدم بالأطماع الأمريكية والغربية. النظرة لأمريكا أنها وراء تثبيت نظام الشاه ووراء الغزو الصهيوني للمنطقة، ووراءمحاولة إغراق
الشباب في المفاسد والموبقات، من هنا كانت المجابهة الشعبية تتجه إلى مثلث أمريكا – الصهيونية – الشاه.
ولقد شهدت الساحة فيما بعد أحداث انقلاب أمريكا على حلفائها القدماء من
التيارات الإسلامية بعد أن استنفدت أغراضها منهم، ثم شهدت الوقوف الأمريكي الصارخ في دعم إسرائيل حتى في أشد ظروف بطشها وإرهابها.
عبارة«الشيطان الأكبر» أدخلها الإمام الخميني (رض) في أدبيات الثورة الإسلامية
وإعلامها حتى أصبحت الكلمة مرادفة لأمريكا على الصعيد العالمي أيضاً.
خاتمة
انصهار الذات القومية الإيرانية في الرسالة الإسلامية جعل الإيرانيين ينظرون
إلى قضايا كل المجموعة الحضارية الإسلامية بأنها قضيتهم، وكلما ازداد هذا الانصهار، إزداد ارتباط الإيرانيين بقضايا الأمة وعلى رأسها اليوم القضية الفلسطينية، ولذلك شكل الانتصار الإسلامي في إيران
بقيادة الإمام الخميني تحريكاً هائلاً للشارع الإيراني نحو قضية فلسطين. والإعلام العربي يثير أحياناً الحزازات القومية بين الايرانيين والعرب، مما يشكل خطراً على الانتماء الحضاري لإيران. واحياناً
يهزأ بالاتجاه الديني الملتزم في إيران مُطْلِقاً عليه اسم «حكومة الملالي» غافلاً أن علماء الدين في إيران يمثلون رمز النضال في إيران من أجل بقاء الانتماء الحضاري والبقاء إلى جانب القضايا
العربية.
المحتوى الفكري والعاطفي الذي يشكل خطاب الشارع الإيراني تجاه قضية فلسطين
هومزيج من إيمان بالثوابت ومن تجارب عملية تاريخية ومنها المقدسات – والمظلومية – وحتمية انتصار المستضعفين – وعالمية الخطر الصهيوني الأمريكي.